تتجلى عبقرية سيد درويش عبر الأزمنة. وفي كل عودة للتاريخ تثبت أعماله رؤية عميقة وموهبة هائلة تثير البهجة والجمال والأمل، ففي كل لحن قصة، وفي كل أغنية تفاصيل مرحلة، حياته القصيرة التي تجاوزت ثلاثين عاما تركت هذا الإرث الإبداعي الخالد، ولو كان عمره أكثر بقليل فماذا تراه صنع؟

لقد غير سيد درويش شكل ومسار الموسيقى العربية، بمعنى أدق أوجدها من عدم، منحها للفقراء والعاملين وبسطاء الناس، وذلك كان فعلا ثوريا بحق، خلع عنها رداءها الأرستقراطي، وأشاعها كما يشاع الهواء والشمس والماء، لتشارك الجميع أحزانهم وأفراحهم وأشجانهم ولوعتهم، تشحنهم بالقوة والصبر لمجابهة الواقع الذي يضغط بشدة على حياتهم، كان درويش يشبه أعماله وموسيقاه، وطنيا صميما ذا موقف صلب، يراقب ويتابع فيما تحمل أعماله مواقفه ليرددها الطلبة والمثقفون في مسيراتهم وتظاهراتهم، التي كانت تغلي بها مصر مطلع القرن العشرين احتجاجا على الاحتلال وسياساته، وبعيدا عن السياسة أسهم درويش في صياغة شكل جديد للمسرح عبر "المونولوجات" التي أوجدها، وكانت غالبا ما تتسم بالظرافة وخفة الدم مشبعة بالكوميديا، عبر من خلالها كثير من نجوم الكوميديا والمسرح إلى الناس.

أما في الشعر فأسهمت موسيقاه في رواج شكل شعري رائع بسيط وساخر وعميق ومشاغب. كان بديع خيري أولا ومن ثم بيرم التونسي ولاحقا صلاح جاهين نجومه ومدارسه.

إنها العبقرية الحقيقية والموهبة الصادقة التي تغير شكل الحياة، وتجعل الكون أفضل حالا وتخلد في الوجدان البشري، ويستذكرها الناس في لحظة حب أو حزن، القيمة التي لا تفنى برحيل صاحبها.

السر الذي يزداد غموضه وانكشافه مع الأيام، الموسيقى التي تسحر الروح، وتجبرك بعد قرن على استعادة عبقري عظيم كسيد درويش في ذكراه الجميلة المجلجلة، التي تعيدنا إليه كلما حانت اللحظة السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، ومتطرفا بصدق يمكن القول بضمير مرتاح، إن الموسيقى العربية لم تكن لتوجد لولا هذا الرجل الذي أنقذها من الانزواء في ظل مؤثرات أخرى هيمنت عليها، كما أن مزج الموقف السياسي من الموهبة والوعي بكل ما يحدث شكل شخصية استثنائية للرجل الموهوب، الذي لم تمهله الأيام كثيرا، وقصرت حتى الآن عن تعويضنا بمن يماثله.