لم تستطع أي من الشعوب أو الأعراق الاستحواذ الكامل والدائم على الحضارة الإنسانية، ولقد أثبت توينبي أن الحضارة الإنسانية لا تسير في خط مستقيم ومتصاعد، بل إنها تسير في دوائر منفصلة، حيث تنمو وتتصاعد وتبلغ ذروتها في بقعة ما من بقاع العالم، ثم لا تلبث أن تذوي وتموت، وقد شبهها ابن خلدون بدورة الكائن الحي، والسجل التاريخي الإنساني يقدم أمثلة لا حصر لها على صحة هذا التصور للحضارة الإنسانية.

ونتيجة لهذه الطبيعة غير المتصلة للتاريخ تولدت النزعة المركزية لدى الأمم المستحوذة على الحضارة في كل الأزمان، عصرنا الحاضر هو عصر المركزية الأوروبية بلا منازع، وقد سبق هذا العصر عصر المركزية الإسلامية، وقبله تسيدت المركزية الرومانية، هكذا سارت أحداث التاريخ منذ بدايات الإنسان الأولى، وانتقاله من البدائية إلى كائن متدرج في التطور، ولحاجته الملحة إلى الطبيعة، كان اكتشافه للنار فتحا عظيما، مكنه من القضاء على الكثير من المخاوف، وتطويع الحديد لزيادة قوته، ولم يتوقف هذا الكائن الناطق عندما سُخر له، بل أوغل في استعمال أدوات الطبيعة لما يفوق حاجته، وأصبح يقاتل بني جنسه للسيطرة على الموارد الطبيعية، والتي ستجعل من الآخرين أيضا حاجات طبيعية يتصرف فيها بقدر ما يمتلكه من قوة.

أثبتت مسيرة التاريخ أيضا أن الأمة التي تقبض على زناد الحضارة في عصرها تتحول إلى ذات، وتحيل ما سواها من الأمم إلى مواضيع تابعة لهذه الذات، وهذه صورة أخرى من صيغ المركزية، إذ تتحول الأمة التي أصبحت ذاتا إلى أمة مستغلة للأمم الأخرى، وتتعامل مع الأمم الأخرى بوصفها مواضيع وليست ذوات، لقد أصبحت الأمم الأخرى عبارة عن أدوات في خدمة الأمة المركزية، شأنها في ذلك شأن الموارد الطبيعية.

إن ما نشاهده اليوم من اقتتال، ومن سفك دماء، وهدم وتشريد، واحتلال أراض.. هو نابع من ثنائية "الذات والموضوع"، الذات الفاعلة، والموضوع القابل، الذات الأنا الواحدية التي يحق لها القول، إزاء ذات الآخر المتشظية الخاضعة، ومع تطور الإنسان واستغلاله موارد الطبيعة، تشكلت لديه ثقافة يقال إنها ثقافة عصرية، وإنسان عصري، حضارة ومتحضر.. وهكذا يبدو التاريخ البشري، عندما نتأمله، ليس إلا تاريخا طويلا يصف لنا تطور الإنسان من إنسان بدائي بقدرات محدودة إلى إنسان متطور وبارع في استغلال الآخر وإدراجه ضمن أشياء الطبيعة الخاضعة لنزواته وجبروته حين امتلاكها. وسبحان ذي العلم التام إذ قال في الآية الستين من سورة الأنفال ما يختصر المقال: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).