عندما قررت بلجيكا الخروج من رواندا، منحت شعبها الذي كان يتكون من قبيلتين: "الهوتو"، و"التوتسي" هويتين مختلفتين، رغم أن القبيلتين كان بينهما اختلاط في الزواج واللغة، إلا أن ذلك عمق الاختلاف بينهما، وجعل كل فريق يظن أنه الأفضل، ولم تعد هناك أهمية كبرى للوطن، وبسبب المال تمكنت "الهوتو" من السلطة وتحول بعض أفراد قبيلة "التوتسي" إلى متمردين، ورغم سنوات من المناوشات المسلحة إلى أن الدولة بقيت متماسكة، وبقي الناس يشعرون بأمان نسبي، لكن ذات يوم في عام 1990 تفتق ذهن أحد المتمردين عن أمر وهو إطلاق إذاعة تخبر قبيلة "التوتسي" أن الحكومة تعمل على إبادتهم وقتلهم، وعليهم بالتمرد.. كانت الإذاعة تخبر الناس كل يوم عن خبث جيرانهم ولؤمهم وتحثهم على فعل شيء ومن قبيل: بادر أنت بالقتل قبل أن تقتل.

استيقظ أفراد من "التوتسي" بعد ليلة طويلة من الاستماع لهذه الإذاعة، وحملوا فؤوسهم وانهالوا على رؤوس جيرانهم، وبدأت أكبر حملة إبادة متبادلة بين القبيلتين، قتل فيها الصديق صديقة والزوج أخوال أولاده حتى صار عدد القتلى يتجاوز المليون.

إذاعة "التوتسي" بنسختها السعودية تحتل "تويتر"، وفي قنوات فضائية، وفي برامج حوارية تكذب على الناس، وتصنع بطولات زائفة ولا تستحي بعد ظهور نتائج أفعالها من أن تكتب تغريدات تشجب العنف بكلمات عامة تنطلي على الناس خديعتها. يخبروننا فيها كل يوم أن التناقض حجة للكراهية والطائفية، ثم يتخذون وضعية المدافع عن الدين ويخبرونك أن هؤلاء يكرهون نبيك بل يكرهون ربك، ويخلطون الأوراق ليدفعوك إلى الغضب من أمر لو غضب منه الله ما أبقى على الأرض كافرا لتحمل السلاح وتطلق النار.

إن مجرمي حادثة الأحساء، لديهم أطفال مثل أولئك الأطفال الذين خرجوا من ذكر الله تلك الليلة ليفجر رؤوسهم آباء أطفال آخرين، ربما قاموا بتدفئتهم قبل أن يخرجوا، ثم همسوا في آذانهم أن يستيقظوا للمدرسة، أي المستقبل.

إنها الكلمات هي التي تسحر البشر، وتحولهم إلى ذئاب لا يرونك تستحق الحياة؛ لأنك ـ فقط ـ تختلف عنهم، أو حتى لأنهم لا يعلمون عنك شيئاً، فقط أخبرَهم من يثقون به أنك سيئ جداً والله يكرهك ويريد منهم أن يزيلوك.

الإنسان في بلادنا بسيط جداً نتيجة سنوات من تعليم لا يصنع كائنا ناقدا ومفكرا، لذا فإن غرس مبادئ إسلامية كحرمة الدماء وتقديم أمن البلاد والسلام فيها على كل أمر، وعواقب انتهاك إنسانية البشر، لا يؤثر في الكثيرين أمام خطابات العنف والقتل والكراهية. ناهيك عن استغلال قلة المعرفة لدى عامة الناس، عن المذاهب وفتاوى العلماء مثل: ابن باز وابن عثيمين، فيرمون المختلف عنهم بما ليس فيه، ويعتمدون على كتب تمتلئ بأحاديث الوضع وحكايات الشعوبيين والطائفيين في دول مضت؛ لإقناع الناس بمبررات كراهيتهم وبغضهم.

إن إذاعة الكذب تتجاهل كل هذا، وتنطلق لإشاعة الفرقة بين أبناء البلد الواحد، ورغم أن حكومتنا وبلادنا من الصلابة بمكان، وهو ما أثبتته حادثة الأحساء، إذ أعلن الجميع أن الدم السعودي لا يصنف أبداً، إلا أن إذاعة الدم هذه لا بد أن تتوقف.

وكما تقول الكاتبة فضيلة الجفال: لا تقتل البعوض بل جفف المستنقعات، لا بد من قانون نحمي به بلادنا ـ يجرم الطائفية، ويسكت هؤلاء الذين نعرف نواياهم جيداً والتي ليس من بينها نصرة السنة.

لو كنت على حق، فإنك لا تحتاج أن تشتم ولا أن ترفع صوتك، ولا أن تقتل، ولا أن تهدم بلداً تعاهد أجدادنا على بنائه وحفظه.

إن كنت على حق، فليكن صوتك أهدأ، وخطابك منطقيا، ودليلك صحيحا، وابدأ بالحب لا الكراهية، أما سلاحك فهو يقتل رجالا لا أفكارا.

إن قبائل "الهوتو" لم تفن، بل رجعت إلى ديارها مع حقد كبير تعاني منه رواندا رغم كل هذه السنوات، وما زال الدم الرواندي ينزف بين الحين والآخر، فالدم الذي نزف أول مرة ما زال ينزف حتى اليوم، ولن يتوقف إلا إذا اختار الروانديون وطناً واحداً وبطاقة هوية واحدة، واستمعوا لصوت الوطن لا صوت غيره.