حددت بعض آليات المثاقفة أنماطاً ومنازع عقلانية تنتصر للمدينة ومنظوماتها الحضارية، وتوطين ذلك الفهم وتلك السمات والتمايزات والنواظم على حساب الريف أو مدن الهامش، مما أسهم في رسم ملامح بائسة وتصور متعال لسكان المدن، بأنهم من يصنعون التحولات والاستيعاب التاريخي وتعزيز دائرة التنوير، ولكن وعي المقايسة ارتبك حين قفزت مدن الهامش والأطراف لتحقق التماثل في مجالات المعرفة، وتجليات الفكر والطفرات المتجاوزة واللحظات المفصلية، فها هي "الباحة" البعيدة عن مدن المركز الغارقة في الأضواء والإعلام وسجالات التنظير، وكثافة الخطاب وشاشات النيون، ها هي تسحب البساط لا ليقع الآخرون ويسقطوا ولكن لتأكيد القدرة على تحقيق مكاسب مخصبة، وتقديم نموذج حي يكسر النسقية والتحقيب وزحزحة التصور الانتقائي والمصنفات المغلقة، بأن مدن المراكز هي التي تصنع تاريخ الفكر والمنتوج الثقافي، وقد عشنا زمناً ليس بالقصير نعتنق ذلك الوهم، مما قاد مدن الأطراف إلى الانكفاء والركود والعطالة والتنافي، وتقليص حدود المشاركة في الحضور والاشتغال وتوليد الأفكار، والانخراط في تشكيل الرؤية المعرفية. ها هي الأسرة الثقافية في الباحة وناديها الأدبي، يكسرون كل الكوابح ويقدمون فعلاً ثقافياً معاصراً، من خلال حمولة مغايرة لما اعتدناه وهضمناه من مشاهد احتفالية ونسيج خطابي بارد ومضامين متوترة واستهلاكية، ولكن الباحة كانت في قمة يقظتها وتوثب وعيها، وهي تمنح العرب وحدة شعرية ستسهم في اختراق الجدران السميكة، التي صنعتها الإرهاصات الكبرى وكرسها دم الربيع العربي، الذي كبل الأذهان عن رؤية الوجه القبيح لذلك الربيع الأسود. ها هو برق الشعر يطل على غابة "رغدان" فيزيدها اخضراراً، وها هي فراديس الكلمة العذبة تجثو كطفل تحت "عرعرة" مثقلة بماء الشجن. وها هي أصوات الشعراء وأنفاسهم صاعدة كالبخور فوق أكناف الجبال العذراء. وها هي القصائد المخاتلة تطير كالمواعيد لتوقظ المجرات وريح البدو الرحل. الباحة لم تشبع من الشعر ولن تشبع فقد اخضل فوق أديم أرضها الريانة وسكن حناجر أهلها كالحنطة، فالمايسترو "حسن الزهراني" النقي كلون البذار العذب كرفيف الفجر، يؤكد أن هذا المهرجان سوف يأخذ طريقه إلى "العالمية" الشعرية، أي أنهم لن يسدلوا ستائر مسرحهم بعد هذا المشهد والعرس ، ولن يطفئوا المصابيح ليتفيأوا الظلال الشحيحة. شكراً للباحة بحجم الروح وشمس النهارات. شكراً لها حين غيرت البوصلة وجففت طعم الملوحة في الفم، وأشعلت القناديل واختصرت الدهور في ثلاثة أيام، ورفعت السقف كي نبصر اشتعالاتنا، ونصغي إلى ابتهالاتنا ودعائنا لوطن سيد يستحق الحياة.