ما إن تدلف باب النادي والمطعم الذي يحمل الرقم 216 على الشارع الرابع والأربعين وسط "مانهاتن" نيويورك؛ إلا ويقابلك شاب بزيٍّ فيكتوري عريق، ليباغتك بالسؤال السريع: هل ترغب سيدي بالدخول عبر الطريق السهل؟ أم الطريق الصعب!
بالطبع سوف تكون إجابتك كما هي إجابة الكثيرين من زوار النادي والمطعم الغريب الذي يحمل اسم الدكتور "جيكل" والسيد "هايد"؛ أنك سوف تختار الطريق الصعب، وذلك عطفاً على توقك لمعرفة المزيد عن هذه الشخصية "السيكوباثية" التي لا يوجد أحد لم يسمع عنها، حينها يقوم ذلك الشاب بفتح حجيرة الهاتف "اللندني"، بعدها تنطلق عبر غرفة مظلمة لتقابل فيها الدكتور جيكل بطل الرواية الشهيرة، التي كتبها في ثلاثة أيام الكاتب الأسكتلندي "روبرت لويس ستيفنسن" عام 1886، التي رغم أن هدف كاتبها كان تقديم مجرد قصة رعب عابرة يكسب منها بعض المال، إلا أنه في المرة الأولى حينما كتبها بعد حلم راوده في الليل، قام "ستيفنسن" بحرق مخطوطة روايته! لكن بعد أيام قليلة قام بكتابتها كاملة مرة أخرى، لينشرها وتستقبل بشكل أفضل من المتوقع من قبل النقاد، خصوصا أنها تجاوزت النمط التجاري السائد لروايات الرعب، وكونها لامست بشكل مختلف معضلة الصراع الداخلي الإنساني بين الشر والخير، بالإضافة إلى المأزق الأخلاقي المتكرر بوجود شخصيات متناقضة للكثير من بني البشر.
المهم.. بعد أن تتجاوز الغرفة المظلمة؛ تبدأ بملاحظة أرفف الجماجم والهياكل العظمية المتحركة، وصور ومجسمات أشهر القتلة المتسلسلين في التاريخ الإنجليزي، الذين قد يتحدثون معك فجأة دون أن تلاحظ وجودهم! ثم تصعد درجاً مهترئاً نحو المطعم الذي يقع في الدور العلوي من هذا النادي الفريد من نوعه، ليقابلك في طريقك متعهد دفن الموتى الأحمق السيد "لويسيوس جول"، الذي يقوم برفقة الخادم الفرنسي "جيرفيس"، والمهووس بالسحر "جيرترود بوم"، بمساعدتك الشخصية على فهم تاريخ النادي والمطعم ودهاليزه الخفيّة، وأيضاً التفاصيل المرعبة المتناثرة في أركانه. ولكن ما قصة هذا المطعم الذي يستمد روح اختلافه من إحدى كلاسيكيات الرواية الإنجليزية؟
تزعم أسطورة النادي أن الدكتور جيكل هرب من لندن إلى نيويورك عام 1931! على الرغم من أن الدكتور جيكل وفي نهايات روايته الشهيرة كان بالكاد يستطيع العودة من شخصيته الشريرة "السيد هايد" إلى شخصيته الطيبة "الدكتور جيكل"، لأن ذلك كان يتطلب مزيدا من جرعات الدواء، إلى أن واجهته الحقيقة المفزعة وهي استحالة عودته إلى سابق عهده الطيب، فكان أن حبس نفسه في غرفة أبحاثه ثم تجرع السم قبل دخول صديقه المحامي "أترسون" برفقة خادمه الشخصي عليه، بيد أن هذا النادي النيويوركي يزعم أن هذا غير صحيح! بل إن الدكتور جيكل هاجر إلى أميركا، وبالتحديد إلى نيويورك، وذلك ليستمر في بحثه عن دواء ناجع يخلصه من شرور "هايد"، لتتشكل بعد برهة من الزمن حوله حلقات من الأصدقاء والمستشارين المقربين، ثم يؤسس هذا النادي الذي سرعان ما أضحى مركزاً لاجتماع المغامرين والمكتشفين والباحثين عن لذة التعرّف على المجهول، ولخوض غمار مغامرة غير تقليدية، وبغض النظر عن سذاجة هذه القصة وعدم صحتها؛ إلا أن الحقيقة الوحيدة هنا: أن الجميع يحاول من خلال زيارته أن يدرك الجانب المظلم من ذواتنا، الذي يتربص بنا كل لحظة، والذي قد يظهر حيناً دون حين.
لحظات ممتعة يقضيها كل من يظفر بوجبة غداء أو عشاء هناك، والأهم من ذلك هو الجو العام والديكور المتقن الذي يجعلك تستشعر أجواء القصة و"لندن" القديمة، وكذلك روايات الرعب الأخرى، حيث يقدم المطعم كذلك عروضا مسرحية أخرى لبعض أشهر روايات الرعب، مثل "فرانكشتاين"، خصوصاً لحظة إيصال التيار الكهربائي لجسد ذلك المسخ المرعب، وغني عن القول إن مسميات أطعمة وأشربة المطعم مستمدة من روح وأجواء روايات الرعب، الأمر الذي يشجع الكثيرين على اقتناء نسخة من الرواية بعد انتهاء وجبتهم من متجر التذكارات، وهو ما يؤكد أنه لا تعارض - أبدا - بين ثقافة العقول وتعبئة البطون، فما المانع أن تعمل على تعبئتهما في وقت واحد؟ ألا يمكن أن نبتكر مطاعم وصالات تعتمد في فكرتها على رواية محلية سعودية أو حتى عربية، تجعل الوجبة الغذائية متعة مفيدة وذكريات لا تنسى؟ فمثلاً رواية "شقة الحرية" لغازي القصيبي من الممكن أن تتحول إلى رحلة مبهرة للتعرّف على عمالقة الخمسينيات.. أما ثلاثية "بين القصرين" لنجيب محفوظ فهي رحلة بين أزقة الحارة المصرية القديمة، وهكذا دواليك.
لدينا الكثير في تراثنا القديم وحاضرنا الحالي ما يمكن إعادة تحويره وبعثه إلى الحياة من جديد، مع تطعيمه بشيء من "البرغر" و"البيتزا"! أليس كذلك؟