لماذا لا يستمتع جماهير التلقي في بلادنا بالمسرح؟ لماذا لا يهرع الصبية إلى خشبات المسرح كما يهرعون إلى ألعاب الحواة والسيرك والبهلوانات؟ لماذا لا يغرس الفلاح فأسه في زرعه آخر النهار ليعود إلى عائلته ليصطحبهم إلى المسرح؟
قد يقول أحد القراء: لماذا التساؤل عن المسرح؟ فلندع المسرح جانبا ولنتساءل عن القراءة. لماذا لم تعد القراءة متعة؟ لماذا كانت حصة المطالعة مقررة علينا ونحن تلاميذ، فكنا نسعى مهرولين إليها نتسابق في فك ألغاز القطعة التي نتدارسها؟ من أين جاء لنا هذا الفتور الفكري الذي يجعل الكتاب مفروضا على الواحد منا؟ فحين يبدأ الفرد في قراءته يمسك بباقي أوراقه يعدها، وكأن البقية المتبقية منه عبء يجب الانتهاء منه؟
تساؤلات عديدة طرحها كثير من الكتاب والمفكرين، وشغلت رجال الإعلام والصحافة، دونما الوصول إلى إجابات شافية!
لم يلتفت أي منا إلى التطور الزمني، والطفح الفكري المعاصر، وما يحدثه في أغوار النفس لتجعله مسايرا لما يتلقاه في اللحظة الآنية ذاتها للتلقي وفي الوقت ذاته لما يتماهى مع تفكيره وتوقعاته وحصيلته الجمالية، فلكل فرد أفق توقعي يتزاوج مع ما يتلقاه على خلاف غيره في اللحظة ذاتها! ومن هنا جاءت أهمية نظريات التلقي وطرحها والبحث فيها والاشتغال بها أمرا حتمياًّ، نظرا لتطور الأفق الجمالي لكل شخص، متماسا مع تغيرات العصر وتأثره. فيقول المنظر الإسباني خوسيه ماريا بوثويلو في سياق حديثة عن نظريات التلقي: "عندما يأتي الوقت الذي يتكون فيه تاريخ العلاقات بين الأدب والجمهور، وسيميوطيقا التعاون النصي، وتاريخ لتصنيفات الخبرة الجمالية، عندئذ قد يتغير نهائياًّ تصورنا للأدب والمسرح على نحو ما بدأ يحدث في الواقع. إذا فقد أضحى علم جماليات التلقي أمرا ملزما، كي نستطيع الوصول إلى عمق الوجدان والتماس معه.
فعلوم التلقي في بلادنا لا تلقى العناية الكاملة، بل لا تجد انتباها يلقى عليها إن جاز التعبير! ونظريات التلقي شحيحة حتى في العلوم العالمية، إلا أنها علوم ونظريات حديثة انبثقت في القرن العشرين، وهي من أدق العلوم، وأنفعها لتحصيل المتعة في التلقي سواء أكان تلقيا عبر القراءة أم عبر الفنون البصرية الأخرى.
وعلوم التلقي تبحث فيما أسميته "السحر المشروع" وهو جذب المتلقي ليظل مشدوها حتى آخر جرعة يتلقاها، فتتسلل الرسالة أي وعيه دون إصرار منا، أو مباشرة إلى وعيه الباطن ودون عناء. وللمتعة أكبر الأثر في صدق الإحساس وفي الانجذاب، هذه المتعة إن توفرت فإنها تصبح عدوى إلى الآخرين في ذات الوقت ذاته.
مارس الإنسان القديم طقوسه وفنونه وأعماله بمتعة فائقة رغبة داخلية منه في التواصل مع العالم، وإرساء جسر المعرفة ثم المتعة بينه وبين العالم بغرائزه الفطرية التي صنفها ادموند هولمز بغرائز ست قابلة للتعليم.
1- غريزة التواصل، الرغبة في التكلم والإصغاء. 2- الغريزة الدرامية، وهي الرغبة في التمثيل [غرائز وجدانية وعاطفية]. 3- الغريزة الفنية، الرغبة في الرسم والتصوير (الدهان) والتشكيل. 4- الغريزة الموسيقية، الرغبة في الرقص والغناء (الغرائز الجمالية). 5 – غريزة الاستطلاع، الرغبة في معرفة سبب الأشياء. 6- الغريزة الإنسانية، الرغبة في صنع الأشياء غرائز علمية.
وبهذه الغرائز الست التي ذكرها هولمز استطاع الإنسان أن يحاول صياغة عالمه ولكن الدعامة الكبرى التي كان يعتمد عليها كانت بالإحساس، فبالإحساس والتعاطف والانفعال صاغ تاريخه الذي ورثته البشرية من بعده.
"إن كلمة التعاطف تعني الإحساس فإننا حين نشعر بالتعاطف مع الإنسان المخزون فينا فإننا نزج بأنفسنا، داخل إطار هذا العمل الفني وستحدد مشاعرنا تبعاً لما سنجده هناك وتبعاً للمكان الذي نحتله، وليس من الضروري أن تكون هذه التجربة مرتبطة بملاحظتنا للأعمال الفنية فمن الطبيعي أننا نستطيع أن نزج بإحساسنا في أي شيء نلاحظه ولكننا حينما نعمم القضية بهذا الشكل لا يكون هناك سوى تمييز ضئيل بين تسرب الانفعال والتعاطف"، فإن هذا الإحلال والاندماج الذي يسلكه الفنان الإنسان ما هو إلا ذوبان في ذوات الأشياء للخروج منها بما يسميه علماء النفس بالمتعة، التي قد تحدث صدى في نفس هذا الإنسان للتجسيد والوصول إلي محسوسات بدلاً من الملموسات.
"في الإمكان أيضا امتصاص الذوات الأجنبية امتصاصاً جمالياً ومع ذلك لا يقوم التوكيد عندئذ على فهم أو توكيد تلك الذوات وسلوكها الفردي وإنما يقوم على تقمص وجداني نفساني لناحيتنا الذاتية يمتد بواسطتها الشيء كما يمتد فيه مخترقاً له". فالتقمص الوجداني ما هو إلا انزلاق الشخص بوجدانه في التركيب الديناميكي لأي شيء، مثل عمود أو صورة أو بلورة أو غصن شجرة، بل حتى في تركيب إنسان أو حيوان، بل إن معناه كما قد يقال ترسمه من الداخل مع فهم تكوين بواسطة الإدراك بالعضلات والجوارح، إن معناه هو تفسير المرء لموضع نفسه حتى يصبح فوق الشيء وفي دخيلة الشيء والإحساس به، فالسعي وراء الإحساس بشتى صوره هو لذة الإنسان وألمه، والفن في الدرجة الأولي يرتكز على هذه الدرجة العالية من الأحاسيس.
إن المتلقي يخترع ويتجاوز ذاته، مثلما يجاوز المكتوب والمرئي والمسموع. إننا في التلقي نصب ذواتنا على النص أو العرض، ويصب علينا هو ذوات كثيرة فيرتد إلينا كل شيء فيما يشبه الحدس والفهم، كما بيناه بكل التفصيل في نظريتنا المعتمدة في الولايات المتحدة بعنوان البعد الخامس.