إن كان للعلم قيمة، فما قيمة الجهل؟ هل هو لا شيء، أم شيء لا قيمة له، أم شيء له قيمة لكنها تساوي صفرا؟ إن الجهل هو مصطلح أوجدناه لتعريف العلم عندما تساوي قيمته صفرا، إلى هنا لا تنتهي المسألة، لأن الجهل بهذا المعنى أبداً ليس صفرا، لأن الصفر عدد لا سالب ولا موجب، بينما الجهل أشبه بنبات يتشعب إلى كل الاتجاهات السالبة والموجبة.
كمثال: هنالك جاهل لأنه لا يعلم، وهنالك جاهل يعلم لكنه يكابر ولا يصدق، وهنالك جاهل لأنه لا يريد أن يعلم، وهنالك جاهل لأنه يخاف أن يعلم، كما أن هنالك من لا يعلم عن جهله، وهنالك من يعلم مقدار جهله، وهنالك من آثر الراحة من البداية فأهدى عقله لغيره يقوده كيفما شاء. كل هذه الأمثلة لتوضيح الجهل السالب والموجب، لا لإجابة السؤال عن قيمة الجهل، فما قيمة الجهل؟
حتى نعرف الإجابة، لنتخيل قرية نائية يُخوِف أهلها بعضهم البعض من الأفاعي، الآباء يُخوِفون أبناءهم من الأفاعي حتى يناموا، الزوج يُخوِف زوجته من الأفاعي حتى لا تخرج، وفي المجالس يتبادل الجميع قصصا مخيفة عن الأفاعي، مثل هذه الممارسات من شأنها أن تُحوِل الخوف إلى طبع، ومتى ما تحول الخوف إلى طبع سيكون النظام الاجتماعي قائما على هذا الخوف.
لنتخيل الآن أن شاباً من أهل هذه القرية هرب إلى المدينة، وهناك وجد الأفاعي في عُلب المختبرات يمسك بها الطلبة بلا مبالاة لتشريحها ودراستها، ثم وجد أطفالاً يضعون الأفاعي حول أعناقهم وهم مبتسمون من أجل التصوير، وعازفاً يعزف فترقص لعزفه الأفاعي. سيدرك هذا الشاب بعد فترة أن الأفاعي ليست مخيفة بذاتها إنما بجهل التعامل معها.
الآن أمام الشاب طريقان في حال قرر العودة إلى قريته، أولاً: أن يقوم بتعليم أهل القرية كيفية التعامل مع الأفاعي، إلا أن هذا الخيار ليس سهلاً لأن هنالك نظاما اجتماعيا قائما على هذا الجهل؛ مما يعني أنهم قد يرفضون هذا العلم حِفاظاً على نمط حياتهم. ثانياً: أن يقرر استثمار الجهل كقيمة تُحقِق له عدة منافع، منها وصفه بالعلم والشجاعة وهاتان خِصلتان من شأنهما أن تضمنا له صدر المجلس والمكانة الاجتماعية المرموقة.
إذاً.. للجهل قيمة حتماً، قيمة للجاهل نفسه الذي لا يريد أن يُعكِر نمط حياته بالعلم، قيمة يدركها العالم الذي قرر أن يحقق مصالحه بأي ثمن، قيمة للآباء حتى ينصاع لهم الأبناء، قيمة للزوج حتى تطيعه زوجته، قيمة تبني عليها القرية نظاما تعليميا متكاملا لتأصيل الخوف أكثر.
إن المكانة الاجتماعية التي نالها هذا الشاب تُؤهِله الآن أن يقوم بالإشراف على مواد التعليم، كما وتؤهله أن يزرع مخاوف جديدة تُعزِز الخوف من الأفعى، كالخوف من القرى الأخرى، الخوف من الآخر الغريب، الخوف من الأماكن الضيقة والمظلمة، الخوف من طرح الأسئلة حتى لا تقود الإجابات إلى جحور الأفاعي، سيضع له متسللين ومندسين ومتلصصين في كل مكان لمراقبة خط سير كل هذه المخاوف، إن الجهل بالنسبة له ما عاد قيمة فقط إنما أعلى القيم التي يجب الحفاظ عليها بأي ثمن.
في الأخير، سيجد أهل القرية أنفسهم في متاهة من المخاوف تُسيِّر حياتهم دون أن يعلموا أنهم في جهل، سيخافون حتى من المعرفة؛ لأن العالِم قد كفاهم شر المؤونة وليس عليهم إلا أن يسيروا خلفه، لكن إلى أين إن لم تكن الغاية هي الخروج من متاهة المخاوف التي بنيت حفاظاً على قيمة الجهل؟
ثم تتضح قيمة الجهل أكثر حين ندرك بأنه لو علِم أهل القرية كيفية التعامل مع الأفاعي فإن هذا العلم سيكشف لهم حقائق تاريخية وإجتماعية يشعرون أنهم في غنى عن الكشف عنها، ستتعرى الكثير من قيمهم كقيمة نظامهم الاجتماعي ونمطهم الحياتي وعاداتهم وتقاليدهم بالإضافة إلى قيمة الماضي التي ستتساوى حينها مع قيمتهم حاضراً!، ولا يوجد مجتمع سيتقبل تساقط كل هذه القيم ببساطة، لذلك ستنشأ الصراعات وتتحرك العصابات حتى تسيل الدماء في كل مكان.
بعضهم سيلعن المعرفة التي أوصلتهم إلى ما هم فيه من اقتتال، بعضهم الآخر سيلعن الجهل الذي أوصلهم إلى هذا الحال، ثم سيتقدم طرف ثالث فيخلط المعرفة بالجهل ليُرضي الطرفين ولن يرضى الطرفان بهذا الخلط الغبي. سيُخوِنون من يدعوهم لمزيد من العلم، ويُخوِنون من يدعوهم للعودة إلى الجهل. ستخرج فئة لتستورد الحلول من الماضي، وفئة أخرى لتستورد الحلول من الخارج، ليبدأ صراع جديد داخل الصراع الأول. سيصرخ بعضهم أخيراً: لا حل إلا بقتل الأفاعي!
وهكذا.. إن كانت للعلم قيمة فإن للجهل ألف قيمة وقيمة، إلا أن المدينة المتحضرة قد راهنت على قيمة العلم، بينما راهنت القرية البدائية النائية على الألف ألف قيمة للجهل، والذي يراهن على الألف قيمة للجهل كالذي يراهن على صمود أطنان القش أمام عود ثقاب.