عُرف مصطلح التحريض بالصورة الأحادية لمعناه السلبي أكثر مما عُرف على جانبه الإيجابي، فالتحريض يأتي بمعنى الحث والتشجيع على الإقدام لتنفيذ فعل ما، و"معنى حَرّضَ في لسان العرب، التَّحْرِيض التَّحْضِيض قال الجوهري: التَّحْرِيضُ على القتال الحَثُّ والإِحْماءُ، عليه قال اللّه تعالى: "يا أَيها النبيُّ حَرِّض المؤمنين على القِتال"، قال الزجاج: تأْويله حُثَّهم على القتال، قال: وتأْويل التَّحْرِيض في اللغة، أَن تحُثَّ الإِنسان حَثّاً يعلم معه أَنه حارِضٌ إِنْ تَخَلَّف عنه، قال: والحارِضُ الذي قد قارب الهلاك، وقال ابن سيده: وحَرَّضَه حَضَّه، وقال اللحياني: يقال حارَضَ فلان على العمل وواكَبَ عليه وواظَبَ وواصَبَ عليه، إِذا داوَمَ القتال فمعنى: "حَرِّض المؤمنين على القتال"، حُثَّهم على أَن يُحارِضُوا أَي يُداوِمُوا على القتال حتى يُثْخِنُوهم".

وهكذا تأصل في الذهنية العربية والإسلامية ارتباط مصطلح التحريض بالقتال والحرب والجهاد والقتال والعنف، واستخدمه على هذا النحو في معناه الأحادي، على صعيد اليوميات في اللغة المتبادلة فصيحة كانت أم شعبية دارجة، هو تضييق لدائرة المعنى للمصطلح المرتبط باستخدامه وإطلاقه للدلالة على أمر ما بعينه، وفي ذلك اجتزاء لمعناه وانحياز إلى وجهته السلبية، وتهميش لقوته على الجانب الإيجابي، فالتحريض يمكن أن يكون تعبيرا مفيدا وبناء لاستخراج مكنونات جمالية، إذا ما تمت إعادة تقييمه وتوظيف لفظه الاصطلاحي في قوالب لغوية خطابية تخدم التوجه الإيجابي، إلا أن إهمال الاهتمام بعمق المصطلح وسعته التعبيرية، جعله مفهوما بشكله ومعناه السلبي الحالي على مستوى جماهيري عريض جدا، ورافق ذلك قصور في حكمه الفقهي والقانوني في الإسلام، بما يوازي تأثيره السلبي العنيف أحيانا، وهنا يأتي دور التشريع ومهمته القانونية، لتثبيت المفاهيم الإنسانية والأخلاقية، وهي مما يصنفها الانتهازي كثغرات يستغلها بعض ضعاف النفوس والحيلة، لنشر معتقداتهم وتوجهاتهم الفكرية المنحرفة، التي يدعمونها بفهمهم المرتبك للنصوص الدينية، يساعدهم على ذلك ضعف الثقافة الدينية والاجتماعية للشارع أحيانا، مؤكدين من خلال حيلهم زورا على صدق أطروحاتهم، وسلامة وأصالة دعواتهم ومشاريعهم تلك.

الآن اتسعت دائرة الاتصال حول العالم، وبات إرسال الصوت والصورة والرسالة النصية وغيرها أيسر وفي متناول الجميع تقريبا، مما يعني اتساع إمكانية التأثير على أكبر عدد ممكن من الناس، وأصبح أمر التشريع لقوانين مدنية قوية وصارمة تضبط الأمور ملحا وضروريا، لقطع الطريق على مصادر شق المجتمعات والعبث بكرامة الإنسان وعقله؛ لأن الشريعة الإسلامية على هذا الجانب لا ترى ما يوجب العقاب بنفس عقوبة الجريمة، في حال حدثت الجريمة أم لا، إلا إذا ارتبطت بالاشتراك الغليظ كالإكراه مثلا، وهكذا نرى أننا نعاقب الفاعل المنفذ "الأداة" بالعقوبة القصوى، الذي ينتهي دوره بانتهاء المهمة وتنفيذ الحكم عليه، ونتجاهل أحقية وجوب الغلظة مع العقل المدبر "المفكر والمخطط" بنفس المستوى، ذلك العقل الذي يظل حيا يعبث ويستمر في التأثير سلبا في آخرين، بالمقابل نجد أنظمة المجتمعات المدنية التي تسمى وضعية، تصنف التحريض محلا للعقاب إذا وقعت الجريمة بناء على ذلك التحريض.

وهذا يأخذنا إلى تساؤل كبير حول ما الذي يمكنه أن يسهم في تقليص التحريض إلى أدنى مستوياته؟!

فنحن نتأخر في استصدار تشريعات وقوانين تجرم التحريض وتعاقبه بغلظة من جهة، ونعترف بضعف العمل الثقافي لتقليص مساحة المعنى السلبي العنيف المترسخ لمصطلح التحريض، فللإبداع محرضاته أيضا، وقد تتمثل في أدوات ما، كالبناء اللغوي، والتنظيم والنظام، والترتيب والحقوق والواجبات، والعدالة الاجتماعية، مشاريع التنوير، ومشاريع العمل الاجتماعي، كثيرة هي محرضات العمل لصنع الجمال، لكننا نتجاهلها عن قصد وعن غير قصد أحيانا..!