فتح موقف شخصي تعرض له شاعر شاب ملف توجه بعض "المتقاعدين"، لتأليف كتب خصوصا في مجالي الشعر والرواية، مع أن بعضهم لم يعرف كاتبا أو مبدعا أثناء فترة عمله الرسمي. ويروي الشاعر طلال الطويرقي الحادثة لـ"الوطن" قائلا: "بعد أمسية شعرية لي، سلم عليّ أحدهم وطلب هاتفي، وجاء بعدها لزيارتي في الخبر، وسلمني كراتين مليئة بالتمر الجيد من مزرعته الخاصة، ومعها ديوانان مصفوفان لأطلع عليهما كما قال". بعد قراءة منتصف "الديوان" الأول أصبت بالغثيان ورميته جانبا، ولم يكن الثاني أفضل من رديفه. هاتفته، وبعد مقدمات طويلة قلت له: أعتقد أن طباعتهما في هذا الوقت غير مناسبة، ألح لمعرفة السبب، فقلت له: أعتقد أنها تحتاج لمراجعات على صعيدي اللغة والوزن، رد: يا أخي عدها دواوينك وتفضل بتعديلها وتنسيقها ولا يهمك شيء، فدواويني ليست أسوأ الموجود. ولاحقا عرفت أن هذا الشخص لواء متقاعد، عنّ له كتابة الشعر بعد تقاعده ببضع سنوات. ويتساءل الطويرقي: ترى ما الدافع الحقيقي لهذا وأمثاله؟.. وهل الشعر بنظرهم مجرد صف كلام فقط؟.
وفي تعليقه على ما أورده الطويرقي، يقول الكاتب عمرو العامري - الضابط المتقاعد من القوات البحرية - لـ"الوطن": ربما يظن البعض أن على المتقاعد أن يتقاعد من كل شيء حتى الكتابة، حيث ارتبطت مفردة "متقاعد" بانتهاء الصلاحية، وبالتالي لا يحق له حتى التأليف والكتابة وهذا من سيئات المجتمع الجاحد وتأكيد لفقر الوفاء لدينا.
وهو ما يؤيده الكاتب والقاص علي فايع الألمعي قائلا: التأليف حق مشروع للعسكري والمدني إن كانت لديه المقدرة في الكتابة والتأليف، والحقيقة أن الحياة علمتني أن لدينا عسكريين لهم اهتمام كبير بالقراءة والاطلاع، كما أن لهم رؤى ثقافية لا تختلف عن غيرهم من إخوتهم المدنيين.
ويعود العامري ليوضح نقطة مهمة في هذا الإطار وهي علاقة الأمر بسن التقاعد العسكري وتراكم الخبرات (ربما لا يعرف البعض عن العسكريين شيئين.. أولهما أن بعضهم يحال للتقاعد وهو لم يتجاوز الخامسة والأربعين من العمر وهذه تحكمها اللوائح والأنظمة العسكرية، وقد يحال قبل ذلك، والشيء الثاني أن هناك أيضا محاذير على العسكريين بخصوص الكتابة والتأليف أثناء خدمتهم العسكرية لأسباب تتعلق بخصوصية المهنة. وبالتالي يبدأ البعض بالكتابة والتأليف "وهم قليل جدا" بعد أن يعود للحياة المدنية كأي إنسان، مستعيدا ملكاته وهواياته سواء في الشعر أو القصة أو المذكرات.
لكن العقيد المتقاعد سالم اليامي (مؤلف روايتين وكاتب مقالات) ينظر للأمر من زاوية أخرى، يوضحها بقوله: "أعتقد أن العمل الوظيفي يأخذ الإنسان فترة من الزمن عن ممارسة هواياته، وعندما يتقاعد يتفرغ لممارسة هواياته. ولا أظن أن إنسانا انقطع عن القراءة والكتابة الأدبية فترة طويلة من الزمن قادر على أن يبدع شيئا بعد التقاعد ما لم يكن مواصلا عطاءه الإبداعي فترة عمله حتى لو لم ينشر شيئا من ذلك الإبداع.
عمرو العامري "الضابط الذي عرف قاصا خلال فترة عمله وأصدر مجموعة قصصية، ثم أصدر مذكرات عقب تقاعده بعنوان "ليس لدى الأدميرال من يكاتبه" لقيت صدى طيبا، يروي تجربته قائلا: كتابة المذكرات حالة مشتركة يفعلها معظم العسكريين في العالم، ومرد ذلك للخبرات والتجارب التي خاضوها.. ولعل أجمل كتب المذكرات هي ما كتبها عسكريون أو سياسيون". ويستدرك "أما جودة المنتج الكتابي أو رداءته فذلك ليست له علاقة بالتقاعد أو أن يكون عسكريا أو مدنيا تلك ملكة الشخص وموهبته وثقافته واحترامه لذاته.. غير أنها تبدو كسيئة من المتقاعد ولا تعزو ذلك لفقر موهبته ولكن لأنه متقاعد. رغم أن بعض الشعراء يكتبون دون موهبة ويصدرون دواوين تتسول الشعر ويتصدرون المناشط الأدبية والمشهد الثقافي وتقدم في نتاجهم الرديء الدراسات، لا لشيء سوى أنهم على الكراسي أو ما زالوا في المناصب. والمشهد المحلي يغص بنماذج لا تحصى منهم ولدي الشجاعة لتسمية بعضهم بما في ذلك بعض المسؤولين.
ويعود علي فايع ليحذر من نقطة تتعلق بالبحث عن الذات من خلال ما وصفه بـ"الضجيج"، قائلا: "أرى أنّ على هؤلاء المتقاعدين من العسكريين المؤلفين أو غيرهم ألا يسحقوا ساحتنا الثقافية بالضجيج كما يفعل الأكاديميون لدينا، لأن الضرر في هذه الحالة مضاعف إذ يكفينا ضرر واحد لا ضرران خانقان!".
لكن فايع يستدرك: "أرى ألا مانع من الكتابة والتأليف العسكري إن كانت الكتابة تضيف جديداً، سواء في المجال الذي كان يمثله صاحبه بالكتابة فيه أو غيره ،إذا استكمل شروط الكتابة ولدينا نماذج جيدة من العسكر المثقفين الذين كتبوا وكانت كتابتهم جيدة، أما من يتعمد الكتابة والتأليف الإبداعي بعد التقاعد دون سابق تجربة وقراءة ودون موهبة فهو لا يختلف عمن يبحث عن ذات فارغة في ساحة تضج بمن فيها، الكتابة الإبداعية في الأخير ليست مجرد فضفضة هي رسالة قيّمة لمجتمع يفترض أن يعي ما يكتب له وما يقرأ عليه".
وتقترب رؤية سالم اليامي من رؤية علي فايع، حيث يرى "أن الإنتاج الأدبي الخالي من الإبداع موجود بكثرة، فهناك كثير ممن يغرقون الساحة بمؤلفات ليس فيها أي نوع من الإبداع قبل أن يتقاعدوا وهم الأغلب في واقعنا الأدبي سواء كانوا موظفين أم لم يكونوا كذلك".
ويضيف اليامي "في كل العالم يتجه المتقاعدون من الرؤساء والقادة والضباط إلى التأليف ونشر خبراتهم وتجاربهم وأفكارهم، وتلقى كتبهم رواجا كبيرا وليس مشكلة في ذلك لأن الجيد يفرض نفسه، المشكلة في واقعنا السعودي، إن كثيرا من الناس يرغبون في أن يكونوا أدباء وكتابا دون أن تكون لديهم مواهب وتجارب".