حدثنا عيسى بن هشام قال: عبرتُ القارات برا كما صارت تعبرها الطائرات، في زمن كله "خذ وهات"، حتى وصلت إلى جبال السروات، فدخلت بلدة بهية، أطرافها ندية، كثيرة الشجر، وفيرة الثمر، وكنت أعاني من وعثاء السفر، وقد اشتد بي الجوع، وتعبت من كثرة الطلوع، فسألت عن طعامها اللذيذ؟ فقيل لي: الحنيذ، فذهبت إلى "الحنّاذ" غير متردد، لأجد عند بابه شيخا محتبيا من أهل الجبال، كأنه مربوط بحبال، وقد جلس على رصيف مكسور، ينظر إلى شارع محفور، ويتأمل في سور منثور، فقلت: ما بك ـ يا أخا الأزد ـ مهموم حزين؟ ولماذا أراك مقطب الجبين؟ فقال: أعاني من "احتقان"، وأتألم من غدر "الإخوان"، وقلة الأعوان، وتقارير "الورعان"، وكثرة المنافقين، وتكاثر المطبلين، لكل مخاتل "وأمين"، ولكل هاتف منهم هدف، فبعضهم "سياسي"، وبعضهم يجهل المآسي، وبعضهم "مواسي"، وبعضهم "أنا وابن حزبي على الغريب"، يا أيها الغريب.. يا أيها الغريب.. يا أيها الغريب. قالها ثلاثا.
قال عيسى بن هشام: فقلت وكيف يصنع أصحاب "الحركات"، أسباب الاحتقانات عندكم؟ فقال: يؤخرون المشروعات، حتى فقدت الأمل في إنجازها قبل الممات، ويعكسون الطرقات، حتى صارت دروبنا متاهات، ويزيلون المجسمات، مستعيضين عنها بالـ"صبات"، ويطمسون اللوحات، ويكثرون الحفر والمطبات، ويزهقون أرواح النبات، ويوسعون للسيارات، ويضيقون على المخلوقات، من بشر وعجماوات، ويدعون أنهم من أنجز المشروعات، بينما تاريخ بدئها يسبقهم بسنوات وسنوات، ويغلقون السماعات، في وجوه أهل الشكايات، ومذيعي القنوات، ويؤدلجون النشاطات، ويوزعون الاتهامات، ويصنعون الانقسامات، ويؤججون الصراعات، ويغرون بالتعويضات، لتقف في صفهم "الكتابات"، ولكن: هيهات.. هيهات.
فقلت: وما الحلول؟ والاخضرار إلى أفول، والهم يزداد كل حول، فقال: يجب التركيز على الدفاع، وعدم الاندفاع، وعدم الالتفات إلى ترهات أهل الانتفاع، والاعتماد على المرتدات، عن طريق الأطراف، لأن ظهيرهم الأيمن أكاديمي "خواف"، وقد اعتاد على سوء الـ"تكتيك"، وامتهن السرية والـ"تسليك"، ومن المهم تقليل الآهات، وعدم اللجوء إلى العواطف والشعارات، والاستعاضة عنها بكشف الشبهات، وإزاحة الستار عن أهل الزيغ والمصالح والغوايات، وتتبع الخطوات، وجمع الأرقام والمعلومات، فالضحية ـ أيها الغريب ـ "وطن"، ولا مساومة على "وطن"، إلا عند من يستشرف الفتن، ويتحرى الإحن، كي يصبح الآمر، وربك على رد كيده قادر.. ثم أنشد:
ما جهلناه.. ولكن..
حاصرونا..
جففوا كل المحابر..
كي تموت الأمنيات الطيبات..
مثلما ماتت بقايا الأغنيات..
قال عيسى بن هشام: فقلت: يا صبي الأزد، أهلكني الجوع، وأشتهي الحنيذ قبل الهجوع، فقال: دونك "شقوي"، حنيذه "يتقاطر عرقا، وتتسايل جوذاباته مرقاً"، ورزه "أَجرى في الحلوق، وأمضى في العروق"، فأكلت حتى حمدت الله على صفاء النية، ونقاء الطوية، ودعوت الله أن يزيل الهم عن قلب الأزدي؛ لأن كربته عظيمة، ونيته سليمة.