استعادة التاريخ لا تعني التوقف عند محطات متأخرة لا تخدم الحاضر أو المستقبل، وإنما هي مجرد استلهام واستيعاب لحصيلة معرفية وفكرية ينبغي ألا تؤثر مطلقا على خيارات الحاضر، وإلا قاد ذلك إلى سلوكيات رجعية أقلها الجدل حول الصحيح والخاطئ لأحداث لم نشهدها أو نتعايش مع تفاصيلها حتى نمتلك الرؤية الكافية لاتخاذ قناعات أو قرارات ذاتية بشأنها، ومن المعلوم في تأريخ الأحداث أنها تتعرض لتشويهات أو تطورات سلبية لتغيير مسارها وذلك ما يفسر إنتاج الاستفهامات حول الكثير من تلك الأحداث.
الذي يقفون على أبواب التاريخ يفضّلون الحكي والجدل على الحقيقة، وهناك فرق كبير بين التاريخ كمحكي سردي وفلسفة تنظر عميقا في الحراك والمتغيرات، وللأسف يميل أكثرنا للتعامل مع المحكي لأنه سهل ولا يجهد العقول في التفكير الفلسفي والمنطقي للنظر في الوقائع والأحداث، وذلك يقودني مباشرة إلى الجدل حول تفاصيل معركة كربلاء وعاشوراء واستعارة الخطاب النقدي بتفسيرات وتشريحات تتماس مع الحقيقة هنا وهناك، في الوقت الذي ينبغي ألا نتوقف فيه كثيرا عند تفاصيل ما حدث، فللمعركة دلالات أعمق وأكبر من الجدل المذهبي وتمايز صفوف الناس بصورة طائفية بحيث تصبح محورا سلبيا لتكريس تلك الطائفية.
حين وقت المعركة لم تكن هناك تصنيفات متطرفة، وحين ننظر في جوانب منها نرى أن طرف الحسين بن علي احتشد بآل البيت الذين لهم حبهم وتقديرهم في قلوب جميع المسلمين، والطرف الثاني وهو الأمويون لم يكن بينهم من يداني هؤلاء شرفا وعزة، وذلك أكده الحسن البصري بقوله: (قتل مع الحسين ستة عشر رجلا كلهم من أهل بيته ما على وجه الأرض يومئذ أهل بيت لهم شبيهون)، وذلك قول لا ينكره سني أو شيعي، وبحسب ذلك الثابت فإننا يجب أن نتعامل مع فكرة الاستشهاد بمعزل عن الاستنصار لطرف على آخر، وإنما إثبات الحق والذي هو ثابت في إشارات بسيطة وسهلة لا تستدعي تاريخا أو جدلا على طاولة نقاشات تفرز اصطفافا مذهبيا.
ولنسأل: لماذا نأتي بالتاريخ بكل أثقاله إلى حاضر بل ونذهب به إلى المستقبل ليؤثر على تعايشنا وأمننا الاجتماعي والفكري؟ ذلك غير موضوعي وليس ذا جدوى، وليس بالضرورة ممارسة نقد وصائي على السلوكيات العقدية والتعبدية لكل طرف، فهي جزء من ممارسات عقدية لا ينبغي أن تصنّفهم في مسار خارج أمتهم، ولكل طرف، سني أو شيعي سلوكياته التي ينكرها على الآخر، واستخدام التاريخ يبدو فعلا عبثيا لا ينتهي بغلبة طرف على آخر، وليس من الحكمة أن نبقى في العصر الراهن بذات أفكار قرون مضت.
واستشهد في هذا السياق بقصة لطيفة يذكرها علي الوردي، يقول فيها: "كنت في أميركا ونشب نزاع عنيف بين المسلمين عن علي وعمر، وكانت الأعصاب متوترة والضغائن منبوشة، فسألني الأميركي عن علي وعمر، هل يتنافسان الآن على الرئاسة عندكم كما تنافس ترومان وديوي عندنا؟ فقلت: إنهما رضي الله عنهما كانا في الحجاز قبل 1300 سنة والنزاع الحالي حول أيهما أحق بالخلافة، فضحك الأميركي من هذا الجواب، وضحكت معه ضحكا فيه معنى البكاء.. وشر البلية ما يضحك"..
وضحك الأميركي استخفاف حقيقي بنمطنا الفكري، دون أن يتعمد ذلك، لأن ما حكاه له الوردي ينطوي على مفارقة تصنع النكتة بالفعل، فنحن في القرن العشرين ونتبادل اتهامات بالوكالة والنيابة عن وقائع تاريخية بذرنا فيها بذرة الطائفية والتمايز بشكل يجعلنا أسوأ من أن نكون رجعيين بل ومتخلفين، فالحياة تنادينا للتعايش والحوار حول تطوير أدواتنا للتقارب بعيدا عن الإسفاف الجدلي حول سلوكيات تعبدية، الله وحده الذي يقرر بشأنها وليس نحن، والحسين في واقع الأمر موروث وفكرة استشهاد للسنة والشيعة، ولكننا لم نمعن النظر في أننا جميعا نحبه ونجلّه، ولكن كلّ على طريقته، وإذا لم يستشهد أتوقع أن الواقع كان سيتغير كثيرا وتغير معه التاريخ وتحوّل حب الجميع للالتفاف والتنافس الشريف على مزيد من الولاء دون أن نتغير إلى هذه الصورة الطائفية البغيضة.