تعبير البراجماتية، الذي يعني تغليب المنفعة على ما عداها من أمور أخرى، هو ما يحكم العلاقات بين الدول، وليس في هذه القاعدة استثناء. وفقا لهذا السياق، يبرز القانون الدولي، والمؤسسات الأممية الناظمة للعلاقات بين الدول. وهذه القاعدة تصدق على العلاقات بين الشعوب، كما تصدق على العلاقات بين الدول.
لم تكن دولة الحق والقانون التي انبثقت عن الثورة الفرنسية، وما تمخض عنها من مؤسسات تنفيذية وتشريعية وقضائية، سوى محاولة لفض الاشتباك الاجتماعي بين قوى تتضارب مصالحها بالضرورة. ولم يكن بمقدور أي من القوى الاجتماعية نفي الآخر، بسبب تجذر حضورها، فكانت الدولة المدنية هي التسوية العملية، التي تحقق التوافق والسلم الاجتماعي.
فيما يتعلق بالدول، انتهت مرحلة من التاريخ الإنساني بنهاية الحرب العالمية الأولى، وتأسيس عصبة الأمم. فقد أنهت مرحلة طويلة استمرت آلاف السنين، كانت الإمبراطوريات تتوسع وتنكمش، وفقا لما كان متعارفا عليه بحق الفتح. ولم يكن هناك حضور لمصطلحي الاستقلال والسيادة. وكان الاستعمار ورديفه الاستعباد، شيئين مألوفين ولم يكونا مستنكرين.
تأسيس عصبة الأمم، ولاحقا هيئة الأمم المتحدة، هو اعتراف بالصراع بين الدول وبضرورة وجود قوانين ناظمة للعلاقة بينها. وهكذا شهدت المرحلة التي أعقبت الحرب، إقرارا أمميا بنهاية الاستعمار والاستعباد، وأقرت حق تقرير المصير للأمم التي وقعت تحت سيطرة الاحتلال.
هذا التطور يحمل معنى متضمنا آخر، هو أن مبرراته لم تكن بالأساس أخلاقية وإنسانية، ولكنها تعبير عن عجز المنتصرين في الحرب -بسبب توازن القوى بينهم- عن ممارسة الأسلوب القديم في العلاقات الدولية، وعدم قدرة أي فريق منهم بمفرده، على السطو على القسمة بأكملها.
هذه المقدمة، تقدم لنا بعض التفسير، لما يجري الآن من انفلات وانهيارات في عدد من البلدان العربية. فهذه الانهيارات تجد جذورها في ضعف المؤسسة الناظمة للعلاقات بين الأمم، سواء هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، أو محليا بالنسبة لنا نحن العرب، ممثلة في جامعة الدول العربية. فهذا الضعف الناتج عن غياب التعددية الإقليمية دوليا، والإقليم القاعد عربيا، قد أوجدت ثغرة كبيرة في العلاقات الدولية، مكنت أميركا من احتلال دول كـ"بنما" و"العراق"، من غير الرجوع للمؤسسة الدولية، بل وبالخروج على إرادتها.
وعربيا أدى ضعف المؤسسة الناظمة للعلاقات بين الدول العربية، ممثلة في جامعة الدول العربية، التي كان الأمل قويا في أن تحقق التكامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي بين أبناء الأمة الواحدة، أدى إلى أن تكون بعض البلدان العربية فريسة سهلة للأطماع الإقليمية. فكان أن شهدنا ضياع كيانات وغياب هويات. لقد سقط العراق وليبيا واليمن وسورية فريسة لهذا الفراغ. وهناك بلدان عربية أخرى لا تزال تعمل جاهدة في ظروف بالغة التعقيد للحفاظ على أمنها، كمصر ولبنان والجزائر والسودان، حيث تواجه هذه الدول هجمات المتطرفين.
ضمن هذه الرؤية، نعيد قراءة ظاهرة الإرهاب، التي غدت ظاهرة كونية، لكن مسرح عملها في الغالب هو الوطن العربي. فتنظيمات الإرهاب لم تأت لنا من خارج المكان، وموضوع علاقتها بالقوى الإقليمية لم يعد موضع تساؤل أو جدل. صحيح أنها هي التي تضطلع بعمليات القتل والتخريب، ولكنها تقول ذلك بصيغة الحرب بالوكالة. وهي حروب معتادة، وحدثت مرات كثيرة في التاريخ الإنساني.
حروب الوكالة ظاهرة سادت منذ أقدم العصور، ومعناها أن تشن دولة أو مجموعة من الدول حروبا لصالح دولة كبرى. في العصر الحديث، وبعد اكتشاف السلاح النووي، أصبح متعذرا نشوب حروب مباشرة، بين الدول التي تملك ترسانات نووية، لأن ذلك يعني فناء محتما للبشرية. ولذلك تحولت هذه الترسانات إلى سلاح وقائي. وكان البديل عنها هو الحروب بالوكالة.
فكان أن شهدت فترة الحرب الباردة، عشرات الحروب التي تقف خلفها إما الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي. والأمثلة على ذلك كثيرة. حروب الوكالة أثناء الحرب الباردة، لم تقتصر على الحروب التي تشنها الدول، بل شملت أيضا جماعات عديدة، كما الحال مع حروب التحرير، التي قادتها عصابات تمكنت بالبراعة والمناورة من إلحاق الهزيمة بخصومها.
لكن حروب الوكالة تلك، رغم ضراوتها، لم تؤد إلى انفلات وفوضى، كما هي الحال في أيامنا هذه، فقد خلقت الثنائية القطبية مناخات إيجابية أسهمت في ترصين العلاقات الدولية. كان الخصوم الرئيسيون معروفين. وكان أي تفاهم بين القوتين العظميين من شأنه أن يخفف حدة التوترات في العلاقات الدولية.
نحن هنا أمام مشهد غريب وفريد. الولايات المتحدة ترخي قبضتها على صناعة القرار الأممي. والنظام الدولي الجديد، بتعدديته القطبية لا يزال في طور التشكل. والقوى الإقليمية تدرك ذلك، وترى فيه فرصتها لاكتساب مواقع جديدة.
وإذا ما سمينا الأشياء بمسمياتها، فنحن هنا أمام مشهد يستعيد روح الصراع الصفوي العثماني. تركيا التي تبنت في المراحل الأولى سياسة تصفير الأزمات، استدارت بقوة بعد ما عرف بالربيع العربي، واستغلت جماعة الإخوان المسلمين لخلق "عثمنة" جديدة في المنطقة. وكادت أن تقترب من تحقيق أهدافها بعد وصول جماعة الإخوان إلى سدة الحكم، بشكل أو بآخر، في تونس ومصر وليبيا واليمن.
من جانب آخر، عملت إيران على تثبيت مواقعها في العراق ولبنان وسورية واليمن. وعمت المنطقة حروب الوكالة. حروب جماعات ودول.. ميليشيات تابعة لإيران وأخرى تابعة لتركيا، وأنظمة موالية للأولى، وأخرى موالية للأخيرة. وهي في المبتدأ والخبر تعكس ضعف المؤسسات الناظمة للعلاقات بين البلدان العربية، وأيضا تعطل بزوغ النظام الدولي متعدد القطبية. وهذه الجماعات هي التي تشكل العمود الفقري للإرهاب.
في ظل هذا الواقع الصعب، لا مخرج من الأزمة، إلا باستراتيجية وجبهة عربية موحدة، تضع في حسبانها أولا مصالح شعوب المنطقة، ولا تكون خاضعة لمشاريع غطرسة القوة. وتلك أمور يمكن تحقيقها سريعا، متى ما وجد الوعي، والإرادة والقدرة.