يعتبر كثير من فلاسفة العدالة والأخلاق المعاصرين - جون رولز على سبيل المثال - الظروف التي يولد فيها الطفل سواء كانت ظروفا في محيطه الخارجي أو في تركيبته الذاتية "اعتباطية أخلاقيا". أي أنهم يرون أنه لا يحق إطلاق أي حكم قيمة على سلوك أو حالة ناتجة عن تلك الظروف. لكي نقول إن الطفل الذي يولد في ظروف (فقر، يتم، ضعف جسدي) يعيش حياة عادلة يفترض أن لا تحكم تلك الظروف فرصه في الحياة. تلك الظروف خارجة عن إرادته وليس من العدل أن تكون هي من يقرر فرصه في الحياة. بمعنى أن هذا الطفل يفترض أن يعيش ظروفا مقاربة قدر الإمكان للطفل الذي يولد في هذه الظروف (غنى، أسرة، قوّة جسدية). لكي نقول إن الأطفال يعيشون وسط ظروف عادلة فإن العوامل التي لا علاقة لهم في وجودها يفترض أن لا تؤثر في فرصهم في العيش كما يريدون. هذه خلاصة الرؤية السابقة.

لكي تتضح الرؤية السابقة أكثر يفترض أن نقارنها برؤى مختلفة. من ضمن تلك الرؤى القول بأن الظروف التي يولد فيها الطفل ناتجة عن إرادة عليا عادلة وبالتالي من الطبيعي ومن العدل أن يعيش وفقا لها. لا يعني ذلك وفقا لهذه الرؤية أن لا تتم مساعدة هذا الطفل ولكن هذا يأتي من باب الرحمة والمساعدة وليس من باب العدالة. الفرق بين منظور العطف ومنظور العدالة أن منظور العطف اختياري وسيكون من الصعب تحويله إلى قانون إلزامي. رؤية أخرى ترى أنه رغم أن هذه الظروف اعتباطية أخلاقيا إلا أن إصلاحها يبقى من مهمة المجتمع لا الدولة. بمعنى أن يبقى عاملا اختياريا من قبل أفراد المجتمع وليس إجباريا يتحقق من خلال القانون العام. الفارق بين وجهات النظر السابقة جوهري: النظرة الأولى ترى أنه من الواجب الصرف على ظروف تكافؤ الفرص من المال العام (ضرائب - ثروات طبيعية.. إلخ) بينما ترى وجهتا النظر الأخيرتان أن هذا ليس واجبا عاما ولكنه خيار فردي وأن المجتمع يبقى عادلا حتى لو لم يقم بهذه المسؤولية.

بغض النظر عن الخلاف السابق إلا أن القضية تبقى جوهرية لتعلقها بشكل أولي بموضوعنا الأساس هنا وهو حقوق الأطفال. الحقوق هنا ينظر لها من منظور قانوني واجتماعي. في المقالات السابقة كان التركيز أكبر على العلاقات الأسرية التي ينشأ فيها الأطفال لكننا نعلم أن تلك العلاقات هي جزء من شبكة علاقات أوسع تؤثر فيها وبشكل كبير الظروف العامة التي يجد الطفل فيها نفسه. الحقيقة التي يمكن أن نتفق عليها بشكل أسهل أن الطفل لم يختر ظروف حياته، بمعنى أن الطفل يولد في أسرة ومجتمع ومعادلة اجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية لم يكن له فيها أي قرار. الحقيقة الأخرى أن هذه الظروف تؤثر وبشكل كبير على حياته. السياق والخبرة التي يعيشها الإنسان هي في الأخير المصدر الجوهري الذي تتشكل منه معانيه للحياة ورؤيته لذاته وللآخرين. لا يعني هذا بالتأكيد أن هذه العوامل هي من يحسم كل الخيارات ولكنها بالتأكيد عامل مؤثر وجوهري.

على المستوى الفردي هناك تقريبا شعور عام بأن الإنسان لا يحاسب على ما ليس له ذنب به. بمعنى أن المسؤولية مرتبطة بكون الشخص قد أقدم على الفعل باختياره. لذلك هناك تفريق في وعي غالبية الناس كما في المنطق القانوني على أن المسؤولية المترتبة على القتل الخطأ والقتل العمد متفاوتة رغم أن النتيجة واحدة. القتل العمد يترتب عليه لوم أخلاقي وعقوبة قانونية أكبر لأن شرط الاختيار والإرادة متحقق على خلاف القتل الخطأ. هذا المنطق واضح في جناية إنسان على آخر ولكنه أقل وضوحا في حالة جناية الظروف العامة على الأطفال. ربما أن من أسباب عدم وضوح الصورة هنا هو أنه في أمثلة كثيرة لا يوجد مسؤول حقيقي عن الظروف التي يجد الأطفال أنفسهم فيها. على سبيل المثال الطفل الذي يولد معاقا قد تكون إعاقته ناتجة عن سبب ليست لوالديه علاقة به كأسباب الخلل البيولوجي. رغم أن إخوة هذا الطفل ولدوا في ظروف صحية جيدة من الأم والأب نفسيها تعرض هذا الطفل لظرف استثنائي من الصعب تحديد مسؤول واضح عنه. هذه الحالة، أي حالة صعوبة تحديد مسؤولية واضحة عن الظروف السيئة التي يعيشها الأطفال، ينقل النقاش في القضية من سؤال العقوبة إلى سؤال التعويض. بمعنى أنه وإن اتفقنا على صعوبة معاقبة أفراد أو مؤسسات معينة عن الظروف السلبية التي يعاني منها الأطفال فإن هذا لا يعني صعوبة التفكير في إجراءات تعويضية تقلل قدر الإمكان من أثر تلك الظروف على مستقبل الأطفال.

سعى هذا المقال إلى تسليط الضوء على حقوق الأطفال من خلال الظروف التي يولدون فيها وليس لهم فيها أي خيار. الظروف هنا تشمل حالتهم الصحية، الظروف الاقتصادية، الظروف الاجتماعية، طبيعة الأفراد الذين يتولون تربيتهم في سنينهم الأولى، طبيعة التربية والتعليم التي يحصلون عليها. كل هذه العوامل تؤثر بشكل كبير في تحديد مصيرهم وبالتالي فهي تستحق الاهتمام من منظور العدالة. بمعنى أن العدالة تستوجب ألاّ يدفع الطفل ثمن ظروف لم يكن له فيها أي قرار. هذا المنطق له آثار كبيرة متعلقة بالأفعال التعويضية التي يمكن أن يقوم بها المجتمع عبر أفراده وعبر مؤسساته العامة لخفض الآثار السلبية المترتبة على الظروف التي يولد فيها الأطفال لنحصل على صورة أقرب لظروف عادلة ينطلق فيها الأطفال لتحقيق الأهداف التي يختارونها لحياتهم.

تلك الأفعال ستكون موضوعات المقالات المقبلة.