بمجرد قراءتي لتهنئة راشد الغنوشي لحزب "نداء تونس" ذي التوجه العلماني، الذي فاز بالانتخابات التونسية الأخيرة؛ انثال لذاكرتي حوار أدرته مع الرجل قبل ثمانية أعوام في إثنينية "البسام" في جدة، وكان رئيس حزب "النهضة" منفيا وقتها، ويسكن لندن.

الغنوشي تحدث في ذلك المجلس عن الديموقراطية والحرية والشريعة، وهو أحد المؤمنين بأن الحرية قبل الشريعة، وهو ما فعله لاحقا وقتما فازت حركة "النهضة" بالانتخابات، حيث تنازل عن اسم الشريعة لصالح الدستور، وانحاز للدولة المدنية وكل آلياتها، ما أعتب عليه كثير من الإسلاميين الذين ثار بعضهم عليه، بسبب مواقفه هذه، بل وشهد حزبه انقلابا ناعما عليه، بيد أنه أصر على رؤيته التي آمن بها، وقال ببعض منها في ذلك المجلس.

أخذتني الحماسة وقتها وسألته سؤالا مباشرا في ذلك اللقاء، ظنا مني بأنني سأحرجه، عندما بادرته بسؤالي: "يا شيخ راشد، هب أنكم وصلتم للسلطة، وتم انتخابكم وأنتم الذين رفعتم شعار الشريعة، ثم في الجولة الثانية للانتخابات، صوّت الشعب لحزب شيوعي أو علماني خالص، كيف يكون موقفكم.. هل ستوافقون على حزب لا يؤمن بالله، أو حزب يحارب الشريعة ويضادها"؟

أجاب بكل هدوء، وكأنه لم يفاجأ أبدا بسؤالي: "نعم، سنوافق. لأننا نحن الذين نرفع شعار الإسلام، فشلنا في التطبيق، وأخفقنا في إقناع الشعب بأننا ممثلون حقيقيون للإسلام، فالخطأ من ممارستنا، وسنعود لمقاعد المعارضة، ونتدارس حول أخطائنا وسبب إخفاقنا، وسنحترم خيار الشعب، وعندما نكون مستعدين ومؤهلين للحكم وترجمة تطلعات الشعب؛ سنعود".

لي موقف متحفظ من الرجل بسبب مواقفه من بلادي، وما فاه به قبل عامين في أميركا، ولكن أشهد بأنه أنضج كثيرا جدا من قيادات "الإخوان المسلمون" في مصر، وتجربته والأساس الفكري الذي يترجمه اليوم؛ هما موضع جدل كبير اليوم في الساحة الشرعية، وبرأيي أن ثمة عوامل أوصلت الرجل لهذا الفكر أو النضج السياسي بما يقول به كثير من أساطين السياسة، بسبب تجنيبه بلاده ما حصل في بقية بلدان الربيع العربي.

ربما كان أول تلك العوامل هو وجوده في مهد الديموقراطية الحقيقية في بريطانيا لسنوات طويلة تمتد للعقدين، ما ساعده على استلهام الفكرة بكاملها، وهناك عامل مهم جدا يتمثل في تطبيق "المقاصد" على الواقع السياسي، بل جماعة النهضة يتترسون به فيما إذا عوتبوا من محبيهم أو جوبهوا من معارضيهم الفكريين، وفكرة "المقاصد" تعني المصالح الكلية العليا، كما أشار لذلك فهمي هويدي في إحدى مقالاته الأخيرة، وقال إن منظري الحركة اهتدوا بفكرة "المقاصد" في تفاعلهم مع المشهد السياسي التونسي وتحدثوا عن جيل جديد من المقاصد السياسية العليا التي يتعين الاسترشاد بها لإنجاح التجربة التونسية. وقد تمثلت تلك المقاصد في ضرورة الحفاظ على الثورة، والانطلاق من مبدأ التوافق، مع تثبيت قواعد الممارسة الديموقراطية.

توقفت عن الكتابة منذ "أحداث رابعة"، وأنا الذي نقد تجربة "الإخوان" وهم في سدة الحكم في مصر. غضب كثير من الأصدقاء والمحبين عليّ، فقد كانت لي رؤية بتخطئتهم في موضوع الرئاسة، وكنت أرى أن يبقوا صوت الشعب في البرلمان ويكتفوا بذلك، بيد أن ما حصل في تونس، أعادني للكتابة كي أنبه إلى ضرورة استخلاص الدروس من مواقف حزب "النهضة"، والاستنصاح مما يقول به بعض المفكرين السياسيين من أنهم غير مؤهلين أبدا للحكم اليوم، وشخصيا كنت سعيدا بعدم فوز الغنوشي ورفاقه، فالظروف اليوم غير مواتية أبدا لأن يتصدر أي حزب إسلامي رئاسة أية دولة، ومن الضروري على الحركات الإسلامية اليوم مراجعة مسيرتها، والإفادة من التجربة الوحيدة التي بقيت في بلدان الربيع العربي، وهي تجربة حزب "النهضة".

أسوق هنا ما علق به المفكر السياسي الكويتي الكبير د. عبدالله النفيسي، وآمل أن تتسع صدور أحبتنا لما يقوله، فالرجل أمضى جلّ عمره في ميدان السياسة، وهو الناصح الأمين لهم.

د. النفيسي طالب الجماعات الإسلامية بعدم التورط في محاولة الوصول إلى السلطة في ظل هذه الأجواء الداخلية والإقليمية والعالمية، وسرد في تغريدات له في "تويتر" بما نقل عنه موقع "مفكرة الإسلام" أسبابا عدة، قال إن أولها: "غياب (المشروع) المتكامل لدى الجماعات". ورأى أن فشل "النهضة" في الملف الاقتصادي كان أهم سبب لتدني شعبيتها.

وأضاف أستاذ العلوم السياسية: "السبب الثاني هو خلو الجماعات الإسلامية من (الكادر) السياسي والاقتصادي خاصة في مجال العلاقات الدولية، وهذا يعود لأسباب موضوعية قاهرة". وأما السبب الثالث الذي أبداه د. النفيسي فهو: "(التربية الحزبية) في الجماعات التي لا تتناغم مع (التربية الاجتماعية) المطلوبة في أي حراك سياسي ما يفقدها القدرة على تجاوز الحزب".

ورأى الرجل أن (الحكم) يورط الجماعات في عملية (إدارية) معقدة كالتي تورطت فيها "حماس" بتوزيع الدواء والغذاء والرواتب وغيرها وما تولده هذه العملية الإدارية من عداوات.

هناك سبب خامس برأي د. النفيسي يتمثل في: "إهمال الجماعات للتكوين الفكري والتدريب الجدلي مما أفقدها القدرة على (الديالوج)". أما السبب السادس هو: "إهمال الجماعات للعلاقات الخارجية مما حولها إلى كتلة من الغموض الاستراتيجي المجهول الذي يستنبت العداوات ويحركها".

واختتم النفيسي سلسلة تغريداته بقوله: "لهذه الأسباب وربما غيرها أنصح كافة الجماعات بالابتعاد عن (الحكم) والتركيز على الحراك الشعبي الذي يهدف إلى الدعوة والترويج وتشكيل القدوة".

لكل أولئك الذين تحسسوا مما كتبت من نقد، آمل أن يتمعنوا في تجربة الغنوشي ورفاقه ويعتبروا، ويستبصروا بما قال د. النفيسي.