هاجر مايكل هيجينز من أيرلندا إلى كندا حينما كان طفلا بعد أن اجتاحت "مجاعة البطاطا" بلاده، ثم انتقل وهو في الرابعة عشرة للولايات المتحدة الأميركية وحاول الانضمام للجيش الأميركي للمشاركة في الحرب الأهلية آنذاك، فرفض لصغر سنه واضطر للانتظار حتى وصوله للخامسة عشرة. غادر الجيش لاحقًا ودرس الطب وعلم الفراسة واختار أخيرًا أن يعمل كقاطع للحجارة. أنجب مايكل من زوجته آن بورسيل هيجينز أحد عشر طفلا وتوفيت بعد معاناة مع مرض السل وسرطان عنق الرحم عام 1899، وتركت خلفها هذا العدد من الأطفال يقوم برعايتهم والاهتمام بهم زوجها وأبناؤها الأكبر سنًا ومنهم "مارجريت" التي كانت تساعد دائمًا حتى قبل وفاة والدتها في أعمال المنزل وتربية الأشقاء الصغار. استطاعت مارجريت أن تُكمل دراستها بكلية كلافيراك ومعهد نهر هدسون، ثم التحقت عام 1900 بمستشفى وايت بلينز كممرضة تحت التدريب. وتزوجت بعدها بعامين بالمهندس وليام سانجر وباتت تُعرف بمارجريت سانجر.
نشطت مارجريت سانجر في العمل كممرضة للنساء الفقيرات وشاهدت عن قرب معاناتهن من تكرار الحمل غير المرغوب فيه، فبادرت بتنظيم حملة تدعو لتنظيم النسل، وافتتحت عيادة لمساعدة النساء الراغبات في ذلك. هذا الأمر كان يعد مخالفًا للقانون ذلك الوقت مما أدى لاعتقالها وسجنها، ثم ساعدت جهودها في إصدار قوانين تسمح للأطباء بإعطاء إرشادات في تنظيم النسل. ومشروعها الذي بدأ بعيادة لتنظيم النسل أصبح منظمة تطوعية رئيسية في البلاد عُرفت باسم "الأمومة التطوعية"، ثم تطورت إلى "الاتحاد الدولي لتنظيم الأسرة في أميركا".
الدعوات لتنظيم النسل وخفض الخصوبة قديمة جدًا في العالم وكانت لها أسبابها المختلفة التي تلتقي غالبيتها في الحرص على تطور الأسرة بالمقام الأول ثم تطور ونماء الدول خاصة مع ارتفاع معدلات الإخصاب والتطور الصحي الذي خفّض عدد وفيات المواليد فصاحبه انفجار سكاني في دول كثيرة مقابل انخفاض في موارد الغذاء ومشاكل صحية واقتصادية وبيئية أخرى.
في الجلسة الثانية والستين لمجلس الشورى السعودي التي عُقدت الأسبوع الماضي، تعثّر إقرار الوثيقة السياسية للإسكان التي دار حولها جدل كبير رُفض فيها مصطلح "خفض معدل الخصوبة" وطالبت بعض اللجان بتعديل صياغته والذي خرج بالفكرة الهادفة لتنظيم النسل والمباعدة بين الولادات وتجنب الانفجار السكاني الذي قد تواجهه المملكة العربية السعودية. ونلحظ أن مجلس الشورى – الذي يفترض به أن يكون كالبرلمان الممثل للشعب والهادف لمصالحه القريبة والبعيدة - نلحظ أنه يهتم كثيرًا لشأن المصطلحات ويسعى لتعديلها بما يتفق مع رضا فئة لا تفتأ في شجب ورفض كثير من القوانين والأنظمة المهمة للمجتمع كسن قوانين للحماية من الإيذاء والتحرش، ونظام لتنظيم الأسرة وخفض معدلات الخصوبة.
كانت أحد أعذار اللجنة التي تحفظت على خفض الخصوبة: "استمرار نمو أعداد العمالة الوافدة بشكل متزايد لسد النقص في العمالة المحلية". وبالنظر لمشكلة العمالة الوافدة في الوقت الحالي ومقارنة أعدادهم المتزايدة مع عدد العاطلين من الجنسين، أجزم أن الحل ليس برفض توصيات تدعو لتنظيم الأسرة بل هو بالأساس خلل في نظام التعليم ومخرجاته لدينا التي لا تهيئ الشباب والشابات بالتعليم والتدريب الفني والمهني للمهن اليدوية والبسيطة لإحلالهم مكان العمالة الوافدة. وكذلك الخلل في النظرة الاجتماعية التي تحتقر العمل في المهن البسيطة خاصة مع ضعف رواتبها ومحفزاتها المادية. ورغم حرص وزارة العمل على تأنيث المحال التجارية لقطع خطوة كبيرة في الاستغناء عن العمالة الوافدة التي تسيطر على قطاع البيع بالتجزئة، نجد الكثير يعترض على عمل المرأة في البيع ويحرض على منعه مباشرة أو عن طريق مناهضة سن قوانين تحميها من الإيذاء والتحرش والاستغلال لتستطيع الاستمرار في هذا المجال العائدة فوائده عليها شخصيًّا وعلى المجتمع بأكمله.
قضايا العمل والبطالة والعمالة الوافدة كثيرة ومتفرعة، وليس المجال الآن للتوسع فيها، ولنعد لتنظيم النسل وخفض الخصوبة من خلال قصة السيد "أبو حسن" المتقاعد مبكرًا من عمله دون سبب واضح ولا يزيد دخله الشهري على 5 آلاف ريال، يسكن في شقة يدفع إيجارها كل شهر 1300 ريال هو أو بعض المحسنين. زوجته تعاني من أمراض عدة رغم أنها لا تزال في نهاية الأربعين من عمرها ولا تملك وظيفة أو مصدرا ماليا تستطيع به المساعدة لتحسين حياة عائلتها المكونة من 12 طفلا أكبرهم في المرحلة الثانوية. سوء الوضع المالي والتعليمي يؤثر دون شك في طريقة تربية الأبناء ومشاكلهم الصحية التي لا تعالج بشكل حاسم، حتى وإن كانت الدولة توفر الدواء والتعليم مجانًا، إلا أن التعامل مع 12 طفلا دفعة واحدة يقلل فرصهم في نيل تربية وعناية مركزة واهتمام خاص. وهذا ما يحدث تقريباً مع عائلة أبي حسن التي انشغلت بجمع الصدقات من المحسنين أكثر من محاولة خفض عدد الولادات مبكرًا بينهم، أو البحث عن عمل للأم أو الأب الذي اكتفى بفتات الراتب التقاعدي ولم يكتف من الإنجاب أو محاولة التوقف عنه!
إن كان بعض الأفراد في المجتمع يفوتهم معرفة وإدراك مصالحهم ومصالح وطنهم المستقبلية، فإن مهمة الحكومة تنظيم هذه المصالح وترتيبها وفرضها عن طريق الخطط والسياسات المختلفة التي تضمن وجود دولة مزدهرة ومتقدمة تستطيع مواكبة العالم المتسارع حولنا. ومجلس الشورى الموقر هو أحد هذه الأجنحة التنظيمية التي يعول عليها المجتمع ويُعول على العاملين فيه أن يغلبوا المصلحة العامة للوطن دون خشية ردات فعل مجتمع اعتاد البقاء طويلا تحت أسمال الأدلجة التي تسببت، وما زالت، في تأخر وقوفنا بثقة في مصاف الدول المتحضرة والمتطورة.
في مدينة نانتشانج الصينية توجد لافتة كُتب عليها: "من أجل دولة مزدهرة وقوية وأسرة سعيدة، نرجو استخدام وسائل تنظيم النسل"، وللنساء العزيزات في وطني أقول: أيتها السيدات: نظّمن النسل لسعادتكن وأسركن!