صفحات التواصل الاجتماعي في الإنترنت، سمحت لنا نحن القراء بمساحة واسعة من الاختيارات خارج نطاق الجبر على القراءة لكتاب بعينهم، كما يحدث في الصحف اليومية والمجلات.
أتاحت لنا هذه الوسائل قراءة أولئك الذين تدفعهم ثقافتهم الواسعة للتغريد خارج السرب، دون تقديم تنازلات، ومنهم الكاتب "الفيسبوكي" عبدالرحمن العلوني.
وكما يقول علماء النفس: الفرق بين الإنسان العبقري أو المختلف والعادي هو رؤية شيء مختلف في الأشياء، وهو ما خرجت به من متابعة الأستاذ عبدالرحمن العلوني.
الرجل يجعلك تتساءل، فتلك الحادثة مرت بي عشرات المرات، ولم أرها من الزاوية التي رآها منها عبدالرحمن؛ فمثلا لا أعرف عدد المرات التي خدعت صغيرتي هند بكوب ملون يحوي الحليب الذي لا تحبه، لكن عبدالرحمن يسمي ذلك خدعة الإناء، ويلفت نظرنا إلى اقتناعنا برأي لمجرد اقتناعنا بمن قاله وليس لمنطقية هذا الرأي أو مدى صوابه.
في أحد أهم "البوستات" التي وضعها، يتحدث عبدالرحمن عن الفرق بين الإنسان والقرد ويذكر الفرق الأهم وهو ميل الإنسان للتجريد، وميل القرد إلى التقليد والمحاكاة، ثم يذكر مثالاً على ذلك وهو ما أصاب الأمة الإسلامية من تقليد ويسميه بالتدين القردي، فهو في ظاهره اتباع لأوامر الدين، لكن بلا بصيرة بل مجرد تقليد لسلوكيات شخص آخر لم يكلف نفسه إقناعنا بها.
ثم يذكر مثالا على ذلك، وهو حادثة أصحاب السبت، ويلتقط التقاطة عظيمة عندما يذكر أن الله تعالى ختم القصة بقوله: (كونوا قردة خاسئين). عادة يصور المفسرون ذلك تفسيراً فيزيائياً مادياً يقولون: إنه مسخهم قردة، لكن عبدالرحمن يرى في العقوبة شيئاً أعمق، وهو أن الله كتب عليهم أن يتصفوا بسلوك القردة، وهو المحاكاة والتقليد لرجال الدين لديهم.
في الواقع، لو رجعت لآيات القرآن الكريم، ونصوص السنة الصحيحة، ستجد إشارة عظيمة لإحدى أهم المثالب التي أخذت على اليهود والنصارى، وهي التقليد واتباع ما يقوله رجال الدين مما خلق الكهنوت لديهم.
أنت المسلم، وحين يكون لديك الحد الأدنى من الثقافة الإسلامية، تعلم يقيناً أن التقليد كان عدو الإسلام الأول، وتأليه رجال الدين كان من أكثر الأمور التي سعى القرآن الكريم للتحذير منها عبر ذكر قصص أهل الكتاب أو المشركين، ومع ذلك جرب أن تخوض نقاشاً عابراً مع أحد المسلمين وتقول له: الله قال كذا، لتجده يرد عليك: لكن العالم الفلاني قال كذا، والأسوأ من هذا كله أن تخوض نقاشاً مع عالم مسلم، وما إن تبدأ نقاشك عن مدى صحة رأيه، حتى ينهي الحوار بغضب متخيلاً أنه صفع وجهك بقوله الآية الكريمة: (ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله..).
كيف يعلم هذا المخلوق البشري ما قضاه الله عز وجل، والله -سبحانه- ترك لنا أكثر من 80% من قضايا التشريع خلافية، ثم أوصانا صلى الله عليه وسلم بوصية قال فيها: "الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس".
في الحقيقة، أراد الإسلام بكل القضايا التي ترك فيها باب النقاش مفتوحاً بين العلماء، أن يترك للمسلم حرية اختيار مذهبه الفقهي، أو الاقتناع بما يقوله الشيخ الذي ألزمه الإسلام بتأصيل الحكم، بمعنى: إخبار المسلم بأدلته بشكل مفصل، ومن ثم للمسلم أن يختار أن يقتنع أو لا يقتنع أو يجتهد في حكم جديد يرتاح معه قلبه غير باحث عن لذته ومتعته.
أراد الإسلام أن ينقي فطرته التي فطرنا عليها وهي التجريد، وألا نتحول إلى مخلوقات تشبه القردة تقلد غيرها ويضحك الناس عليها.
يسمي علماء تاريخ التشريع المرحلة التي توقف فيها الاجتهاد، وظهر التقليد، بعصر الانحطاط والذي تبعته أحداث سياسية مهمة، خسرت فيها الخلافة الإسلامية نفسها، وتقاسم العالم تركتها واحتلت بغداد واغتصبت حرائرها.
هل عاد عصر الانحطاط الفقهي مرة أخرى؟! نعم؛ لأننا عطلنا العقل المسلم ودفعناه لتأليه رجال معينين منحناهم حق تسييرنا، وألقينا بعبارة علمائنا الأوائل: "كل يؤخذ من حديثه ويرد إلا صاحب هذا القبر".
إن جميع الدلائل اليوم توحي بذلك، فالأمة تعيش فترة انحطاط أخرى، وتحتاج لإيقاظ العقل المسلم مجدداً ونزع "ملابس الكهنوت" التي ألبسناها قوماً منا، يظهر الواقع المعاصر أنهم "أضلونا السبيلا".