شيء يُطلُ الآنَ من هذي الذُرى
أحتاجُ دمعَ الأنبياءِ لكي أرى
شجرٌ من الحدسِ القديمِ هززتُه
حتى قبضتُ الماءَ حينَ تبخّرا
لا سرَ فانوسُ النبوءةِ قال لي:
حينَ طالعَ ما جرى "ماذا سيجري"
وسيسقطُ المعنى على أنقاضنا
حتى الأمامُ سيستديرُ إلى الورا
سيرى المؤذنَ والإمامَ كلاهما
سيقولُ "إنا لاحقانِ بقيصرا!.. الشاعر محمد عبدالباري.
يحكى عن امرأة جميلة ورشيقة كانت تنظر في المرآة وتعجب بجمالها وسحرها ورشاقتها؛ إلا أن السنوات كانت تمرّ عليها تترى تاركة على وجهها علامات لمرورها كل حين لكنها لم تر قط ما كان يحدث، لأن مرآتها السحرية أخفت عنها الحقيقة. زاد وزنها وشحب لونها وأصبحت بحاجة للكثير من العلاج والترميم خاصة العلاج النفسي الذي ينبهها لما جرى من تغيير للأسوأ إلا أن المرآة لم تكن صادقة قط!
لو أسقطنا تلك الحكاية على أمور أخرى لوجدنا أن المدير الذي يقابل كل تقصير في إدارته بالدفاع عنها هو في الواقع يشبه تلك المرأة الموهومة! وكل من يفترض في بلده أنه الأفضل وسيبقى مهما حدث للعالم ويطمئن لكل منجزاته ويركن إليها سيجد نفسه يوما آخر الركب تماما كصاحبة المرآة شاخت ملامح لم يحسب لشيخوختها حسابا! ومن يفترض من جانب آخر في غيره أبشع الصفات ويتبعه كظله مهووسا بنفسه وبكماله وجماله هو في النهاية أحمق كفتاة المرآة!
الواقع أن كل ما يحيط بنا يصنع قناعاتنا ورؤيتنا الصادقة أو المشوبة بالزيف للحياة. ابتداء من أول حروف اللغة التي نلثغ بها في صغرنا ومرورا بالكلمات التي تعتاد عليها مسامعنا في محيطنا؛ مما يجعلنا نتبناها عقلا ولفظا فإما أن نلين حسا وذوقا أو يصبح كلامنا كالحجارة أو أشد قسوة!
الوسط الإبداعي أيضا مملوء بالمطامع والأهواء وتلميع الذات وتهميش الإبداع الحقيقي الذي تمثله قلة إدراك، وتعي وتفهم وتكتب بصدق ولا تزال تأمل أن تفتح النوافذ المهشمة للضوء ليزيل عفن الظلام الذي استمر من الدهر أحيانا!
الإبداع وجه للتشويه المتعمد الذي أصابنا أيضا ونجده واضحا في سيل من الكتب والإصدارات التي تزيف الوعي، ولا يستحق كثير منها أن يسمى تأليفا بل هي سقم أو سرقة إلا من رحم ربي، حتى صرنا نتأمل أصحاب الكلمات العذبة ولا نقوى على أكثر من نسخ ولصق كلماتهم على أحسن الأحوال، لأن قاموس البيان ضاع في زمن الهشاشة الثقافية وضعف العناية اللغوية الذي ترعاه وسائل إعلام هزيلة ومؤسسات ثقافية انغلقت على نفسها وتركت المبدع متخبطا، موهمة لنا أن فراش الإبداع قادم من شرانقها، وبعد انتظارنا تخرج لنا مسوخا ثقافية مشوهة أبقت أرضنا الخصبة قاعا بلقعا وجل ما تملكه بعض تلك الجهات مناصبها التي تلمع ذواتا هزيلة من كل شيء إلا وهم التفوق الذي تراه في مرآة غير موجودة أصلا!
من يسأل عن سبب كثرة الحوادث والوفيات في شوارعنا ولا يبصر في مرآتنا جهلة العالم بالقيادة من السائقين الذين نستقدمهم يتقاسمونها مع أطفالنا الذين لم يبلغوا الحلم فحولة الشوارع؛ هو أعمى بالتأكيد!
الرياضة جانب مهم وفي الأصل غذاء للروح والجسد والفكر تبعد من يمارسها عن الأفكار السوداوية وتنقله لعالمه ونصره الصحي والعقلي حتى تدلف من باب التعصب فيتغير الأمر كليا لتتحول لداء بعد أن كانت دواء! لا تدهش حين تسمعني أقول إن الفريق الذي أشجعه رائع ومظلوم ومضطهد ويعاني من حسد الحاسدين؛ والفريق المقابل راش ومرتش وفاسد وساحر وحاقد وربما يكون وراء مخالفات ساهر لفريقي المغلوب على أمره!
من صنع هذا الجو الأسود في رياضتنا؟!
أدركنا زمنا كان الصحفيون الرياضيون يثيرون موجة من الغضب بعناوينهم المعادية للفريق المقابل تدفع الحماس إلى أشده بين القراء، لدرجة تروج معها نسخ الصحيفة من أجل ملحقها الرياضي المثير، وتنتشر تلك المقالات قبل أن تزول الشمس. وحين يلتقي الصحفيون يتضاحكون بلا ضغينة فالغاية كانت تسويق تلك الصحف لا الولاء ولا البراء!
مضى ذاك الزمان وشاخ كتابه وبقيت الفكرة بل كبرت الفكرة وتجذرت وأصبحت معاداة الفريق الآخر خلطا للدين بالرياضة، وتحولت البغضاء لتجارة رائجة نحرض عليها ونباهي بها زاعمين أنها الرياضة الحقيقية!
لنعترف أن في وسطنا الرياضي حرية تعبير لا تكاد تجدها في غيره تطال حتى رؤساء الأندية مهما كان حسبهم ونسبهم، وتلمز وتنتقد أعضاء الشرف بكل أريحية وبهذا تقترب الأندية لمؤسسات المجتمع المدني الغربية والمدافعين عنها لفرق المحامين هناك لكننا مع هذا الجو الحر لا نكاد نبصر النور وسط عتمة أفكارنا!
ما حدث من أخطاء من المتحمسين - لمباراة الهلال وويسترن سيدني - مع أو ضد من تخوين ومعاداة هو انعكاس لصورة ذهنية بناها زمن مُر، مَر علينا مرور اللئام وتركنا شظايا نجرح بعضنا ولا يعود زجاج أرواحنا لأصله الشفاف!
أخيرا الغريب أن من يدس رأسه في الرمال حين تهب عاصفة المواقف الصادقة يجتاز العاصفة ببلادة ومن يرفع رأسه ويعلن أن وقت التغيير للأفضل قد حان يجرفه تيار المخالفين المشككين بكل عمل أو حتى نية لم يعلن عنها بعد!
أوهامنا الرشيقة خانقة أثقلتنا ولوثت ماءنا وعكرت سماءنا ونشرت بيننا فنونا من العداء، فمن يملك رؤى صادقة تخرجنا من هذا الغثاء الذي تخبط فيه العالم قبل الجاهل؟!