الملحوظ بشكل عام، أننا لا نحتفي بوطننا الغالي، وبما له من حضارة، كي نذكي في النفوس هذا الألق الحضاري الذي هو لنا وننتسب إليه!

إننا نجد أن العالم يدون ويحتفي ويروج إعلاميا لأي "شقفة" فخار قديمة، أو أي حجر أو فرع شجرة، في محاولة لإيجاد تاريخ وحضارة ينتسبون إليها! فأين نحن مما تمتلكه بلادنا من حضارة لا توجد على وجه الأرض إلا عندنا؟ وأين الوعي المعرفي!

بطبيعة الحال، وجدت بعد جهد كبير - في البحث والتحليل والتقصي الدقيق والأكاديمي تمخض عن مجموعة مجلدات أسميتها "عبقرية الإنسان" - أن التكوين البشري يرتبط بهوبط سيدنا آدم عليه السلام وعيشه على هذه الأرض الطاهرة، ثم تتابع نسله من بعده، حتى انتشار الجيل الثالث من أبناء نوح عليه السلام إلى بقاع الأرض.

إنه يطلق على منطقة جنوب غرب آسيا اسم العالم القديم. ويؤرخ لها بأنها أولى الحضارات في العالم. يقول الدكتور رالف دانتون في كتابه: "شجرة الحضارة" وهي دراسة محكمة أجراها في مؤسسة فرانكين: "إن أهم مركز لتدجين النبات واستئناس الحيوان في بلاد العالم القديم هي تلك المنطقة الواقعة في جنوب غرب آسيا.. ومن العبث في الوقت الحاضر أن نحاول البحث عن أصل المكان الذي تم فيه تدجين النباتات المختلفة واستئناس بعض حيواناتها على وجه التحديد وكل ما نستطيع أن نقوله هو أنه حوالي عام 5000 ق. م. وكانت نظم حياة القرية منتشرة في معظم أرجاء هذه المنطقة وإن قبائل آنذاك متباية، كانت تشترك في اتباع تقليد واحد، وقد تستخدم القبائل المختلفة الزخرفة، أو أوانيها الفخارية، وتبني منازلها، بطريق تختلف عن بعضها اختلافاً بسيطاً، ولكن أوجه التشابه بينها كانت تغطي على أوجه الخلاف".

وبهذا يؤكد لنا رالف لنتون ما كانت علية بلادنا من توغل في عمق التاريخ الحضاري بالرغم من تقدمه بحقب كبيرة عن ما وصل إليه الباحثون والمنقبون في العصر الحديث؛ إلا أنه يتحدث بكل ثقة عن معطيات حضارية موغلة في القدم: "ولا يعادل صعودبة معرفة الأماكن الحقيقية التي نشأت منها النباتات والحيونات المختلفة في هذه المنطقة إلا معرفة الأزمنة، على وجه التحديد التي ظهرت فيها بعض المظاهر الحضارية التي كونت مع بعضها البعض صرح الحضارة في منطقة جنوب غرب آسيا، التي انتشرت في جميع أرجاء البلاد، وقد تبع تطور إنتاج الغذاء في هذه المنطقة تقدم حضاري سريع لدرجة أنه يصعب علينا أن نعرف بوضوح وعلى وجه التأكيد محتويات أي طبقة من الطبقات التي تدل على تتابع العصور الزمنية في المناطق الأثرية".

كانت هذه المنطقة مهدا للحضارة، وبجذور عتيقة لمنابتها، فلم تكن مجرد تدجين نباتات أو استئناس حيوان فحسب، وإنما كانت مدرجاً للاختراعات: "لا يمكننا أبداً أن نجزم متى صنعت أول عجلة، أو متى صنع أول محراث أو نول، أو متى صهر أول معدن، أو متى كتب أول نقش، لكننا نعلم فقط أن كل هذه الاختراعات التي غيرت مجرى الحضارة في العالم قد نشأت في بلاد العالم القديم، وأنه يمكن تتبعها إلى هذه المنطقة؛ وأن ذلك قد تم بين سنتي 5000 و3500 ق. م"، فقد ظهرت حضارة العصر النيوليتي ثم عصر عصر البرونز، ثم عصر الحديد في تقدم الحضارة ويمكن تطبيقها على المناطق التي تأثرت بحضارات منطقة جنوب غرب آسيا، كما ذكر لنتون. بل امتد تاريخها أكثر عمقا وتوغلا في عصور ما قبل التاريخ،" فقد تمت اكتشافات تنبئ بتاريخ قديم لتؤكد ما ذهب إليه لنتون بالرغم من زمن ليس بالقليل على ما ذكره في كتابه شجرة الحضارة وعلى سبيل المثال اكتشاف حضارة العُبيد. وفترة العبيد (5300-4000 ق. م)، وهذه الحضارة التي تم اكتشافها من قبل فريق التنقيب الغربيين؛ أشير إليه بأنه كان فترة ما قبل التاريخ وتخص الشرق الأدنى مثل تل العُبَيِّد - الواقع غرب مدينة أور في جنوب العراق، ضاحية ذي قار - اسمه فخار العصر الحجري الحديث العائد لفترة ما قبل التاريخ؛ ومنح اسمه أيضا لحضارة العصر الحجري النحاسي التي تمثل أول المستوطنات في السهل الرسوبي لجنوب بلاد ما بين النهرين والخليج العربي ووسط الجزيرة العربية وشرقها.

ثقافة العُبيد بدأت منذ حوالي 5300 ق. م واستمرت حتى بداية فترة أوروك 4000 ق. م. إن غالبية المكتشفات كانت لصناعة المجوهرات والأواني الفخارية.. وشهدت فترة العُبَيِّد اختراع عجلة الفخار وبداية العصر النحاسي كما اتسمت بمستوطنات قروية كبيرة وبيوت مستطيلة الشكل ذات غرف عديدة مصنوعة من الطين المشوي (آجر) مع ظهور أول المعابد العامة وفق هندسة معمارية متشابهة.. كما تظهر السجلات الأثرية أن فترة العُبيد وصلت إلى نهاية مفاجئة في الخليج العربي وشبه جزيرة عمان في عام 3800 قبل الميلاد".

"وقد اعتنى عالم الآثار والباحث الأميركي "بيتر كورنوول" بهذا الخصوص في الخمسينات من القرن الماضي باكتشاف حضارة "الدلمون" كما أوردها في أطروحته لنيل درجة الدكتوراه من جامعة هارفرد بعنوان "الدلمون" وقد تأخر اكتشاف هذه الحضارة في هذه المنطقة وتوالى عليها المنقبون الدنمركيون والأميركان وغيرهم.

وبتوالي العصور على هذه المنطقة يتبين لنا تتابع العصور، بأزمنة مختلفة، "وتمر هذه الفترة الطويلة بالعصور الحجرية ثم بفترة العُبَيْد (الألف الخامس قبل الميلاد) ثم بفترة دلمون ثم فترة الممالك العربية المبكرة، ثم الممالك العربية الوسيطة والمتأخرة ثم فترة العهد النبوي ثم فترة الدولة الأموية والعباسية والعصر الإسلامي الوسيط والمتأخر".

إن ما يعرضه المتحف الوطني في المملكة، وفي قاعته الخامسة من آثار فهو ما يؤكد هذا التاريخ، حيث "يشاهده الزائر في هذه القاعة نموذجاً كبيرا لحفظ هذا الإرث الكبير".

أبناؤنا لا بد أن يعرفوا حضارتهم فكيف يتأتى ذلك وكيف نبني بداخلهم حب الوطن والدفاع عنه؟ فالقلعة لا تسقط لكثرة المحاصرين لها؛ وإنما تسقط حين يتساءل حماتها عن جدوى حمايتها. وهذا دور التعليم والإعلام على وجه التجديد.

فقناة الإخبارية تعمل على متابعة ذلك بشكل جيد، إلا أن برنامجا واحدا لا يكفي فأين الصحوة الإعلامية؟ التي يجب أن تكون على أغلب القنوات العربية والغربية، ويجب أن يُشترى وقت إعلامي خارج البلاد؛ للترويج لحضارتنا وتصحيح المفاهيم الخاطئة اتجاهها، بأنها كانت حضارة بدو رحل يطلق عليهم الجاهلية الأولى والثانية!

أسعد كثيرا بوفود طلاب المدارس إلى المتحف الوطني لتداول المعرفة، إلا أنني لاحظت أن المسألة تحتاج إلى وعي بأهمية الزيارة. إنها زيارة مهمة للمعرفة وللتاريخ البشري ولحب هذا الوطن وحب الانتماء إليه، وليست رحلة مدرسية ترفيهية كما يفهمها الطلاب، فلا بد أن يدونوا ويُناقشوا وتمنح لهم درجات في النشاط المدرسي للتشجيع والمثابرة على المعرفة، وأيضا نذكي فيهم وفي كل الشباب أيضا عنصر الغيرة على الوطن بين أوطان تتباهى بما هو ليس كما لدينا، أبناؤنا لا تشغلهم إلا ثقافة (الآي باد) مع الأسف.