هي ثقافة لا أكثر، نحن لا نستطيع التغيير خلال برهة فاصلة، ولكننا قادرون على التعلم، قادرون على أن نزيح الكتلة الأسمنتية من على مشاعرنا، لنتجاوز الكثير من الخطابات الضحلة التي اعتدنا على تلقيها، وبعد ذلك ممارستها لكونها باتت جزءاً لا يتجزأ من شخصياتنا، أن تدرك قيمة التسامح، أن تستيقظ وأنت متوافق تماماً مع نفسك، هي ثقافة ووعي لا أكثر، نحن لا نولد مفخخين بكل الحيل اليومية، نحن نولد لنكتسب كل التحولات اليومية التي تصادفنا، وشديد الذكاء من يستطيع أن يستفيد من كل هذه التحولات الملتهبة التي تصادفه في حياته، أن يخرج من حقيقة الحياة وهو مدرك أنه استطاع أن يتغير، أن يبدل رث أخلاقه بثقافة متمدنة ومتحضرة، أن يزيح ظلال الغيوم المتكسرة بثنائيات قوس قزح، مثمناً أن تجربته في الحياة هي جولة استثنائية قد خصصت لهُ وحده.

لقد مررت بتجربة شخصية، وجميعنا نمر بتجارب مليئة بالخيبة، هذه التجربة جعلتني ربما ما يقرب من الشهرين وأنا في حالة من الفراغ والفجيعة والصمت، ولكني تنبهت سريعاً إلى أن الخروج من هذا المأزق الذي وضعت نفسي فيه، لن يأتي إلا حينما أدرك معنى التسامح، الأمر ليس بالسهل، أشياء كثيرة تقف أمام وجهك لتجعلك موقناً بأنك أصغر من أن تسامح، أو بمعنى أدق أصغر من أن تدرك قيمة المسامحة، هي التربية، هو الخوف مما سيقال عنك وعن فكرك، أن تسامح يعني ذلك أن تكون ضعيفاً، فمسامحتك يعني أنك لا تملك القدرة على الأخذ بحقك، وأن الطرف الآخر قد فاز بالبطولة، لكن أعود وأقول إنها الثقافة التي عليك أن تتعلمها، أن تتشربها حتى آخر رمق، أن تصبح واعياً بأنك مختلف، وأنك حينما تسامح، فيعني ذلك أنك تربط روحك بالحياة أكثر بعيداً عن الغفلة والخوف.

وقد أثارني خبر قرأته مؤخراً عن العجوز البريطانية "لوريتا سميث" 75 عاماً، التي تلقت رسالة من اللص الذي سطا على منزلها بصدر رحب، وتأثرت بالكلمات التي تضمنتها الرسالة، لدرجة أنها أرسلت للص القابع في السجن بانتظار المحاكمة، مبلغاً رمزياً من المال تعبيراً عن تعاطفها معه، وهنا تكمن قيمة التسامح الكبير، التعاطف الذي يجبرنا على سد فجوات الخوف من أرواحنا، الخوف المتكرر من الآخرين الذين يشككون على الدوام بأن أرواحنا لم تعد كما كانت، ويمكنك في أي مجلس أن تلحظ مثل هذه النوعية، حيث يجتمع هؤلاء لنشر الثقافة السلبية في محيطهم، ثقافة الخوف من الغد، وأن الخير انتهى منذ زمن بعيد، متناسيين أن الخير منا وإلينا، وهذه العجوز تضرب مثلاً في فهمها لقيمة التسامح الجميل، حتى إنها تعاملت مع اللص وكأنه واحد من أحفادها، تماماً مثلما فعلت أسرة الشاب المبتعث الذي قتل قبل أسبوع محمد البادي على يد زميله، حينما قام بدهسه وهو في حالة سكر، لقد سامحت أسرة البادي القاتل وقبل أن ينشف دم ابنها، بل إن الأم قالت كما وصلني: "إننا نتمنى أن يخرج مروان اليوم قبل غد من سجنه"، مترفعة عن كل المهاترات والأقاويل، محتسبة الأجر من عند الله، ذاكرة فضل وقيمة التسامح الذي هو أساس ديننا الإسلامي، ورغم فداحة وخسارة ابنها محمد يرحمه الله، إلا أن والدة البادي بدت متصبرة لأقصى ما يمكن، مشدوهة داخل فراغها الخاص بها، ولو سألتني ما هو أقسى ما يمكن أن يمر به أي أب أو أم في حياته، لقلت لك من دون تفكير، أن يفقد أحدهما واحداً من أبنائهما.

أذكر أنني في الجامعة كانت تدرسني دكتورة لا يحضرني اسمها الآن، ولم تكن ترتدي في الجامعة سوى الملابس السوداء، وحينما سألت عن سبب ارتدائها الأسود على الدوام، رغم بشاشة وجهها وروحها، أخبرتني زميلتي أن ذلك يعود إلى فقدانها لابنها البكر في حادث سير في لندن، ومنذ وفاته وحتى تلك اللحظة، قررت الأم والدكتورة الجامعية ألا تلبس غير الأسود، حداداً على ابنها، أنا بعيدة عن التدخل في الجانب الديني، بأن ذلك يجوز أو أمر منهي عنه، لكنه الحزن الذي لا يمكن لهُ أن يفارق أحد الوالدين جراء فقدانهما لأحد أبنائهما فجأة، إنه القلب حينما يكسر ويتعذب ويتألم بسبب الفراق، وإنه لن تعود للوالدين فرصة أخرى لرؤية ابنهما وهو يكبر أمام ناظريهما.

وأنا حينما قررت الصفح والمسامحة، كانت ثمة قصة قد أثرت بي طويلاً، حتى إنني شعرت بمدى ملوحة وضعف قدرتي على ألا أكون بمثل مقام هذه الأم، التي قتلت ابنتها المراهقة على يد شاب، اغتصبها ثم قام بقتلها وكان حينها تحت تأثير المخدرات، وحينما تم القبض على القاتل، أصرت الأم باستماتة لمقابلته، وكانت تفعل ذلك لكي ترفع عن قلبها غشاوة الألم، الذي عايشته نظير فقدانها لابنتها، وحينما تم اللقاء بين الأم التي شعرت لوهلة بأن الزمن قد تقلص أمامها وصار صغيراً في حياتها، وبين القاتل الشاب، بكى الاثنان بكاءً مريراً، واعتذر الشاب عما فعله بابنتها وبها، في تلك اللحظة، قررت الأم الصفح عنه، وقالت: "الآن يمكنني أن أمضي في حياتي".