قبل لحظات من بداية محاضرته العلمية، كان "David Price ديفيد برايس" يرتدي حلّة رائعة، ويتجاذب أطراف الحديث بكل هدوء ورويّة، لكننا وما إن دخلنا قاعة المحاضرة حتى وجدنا شخصاً آخر هناك! فمن حلّة راقية إلى قميص أحمر مهلل، وإلى سروال قصير يكشف عن ركبتيه، والأغرب من كل هذا قبعة عجيبة يعتمرها كما لو كان وسط غابة مطيرة!
كان موضوع محاضرة "ديفيد" ورفيقه "إيدي قولدستين" - من متحف "دينفر" للطبيعة والعلوم - مشوقاً للغاية، فلقد كانا سيتحدثان حول ممارسة "Busking" أو ما يمكن أن يطلق عليه بأداء الشوارع، وهو ما يقوم بتقديمه شخص أو مجموعة أشخاص أمام الجمهور الحي في شارع دون ترتيب مسبق أو تذاكر مشاهدة، ولكن في حقيقة الأمر حديثهما كان متمحوراً حول "أداء الشوارع العلمي"، أي الاستفادة من الحقائق العلمية بإنتاج عروض أداء جاذبة للجمهور، تسعد الحضور وتكسبه إدراكاً أفضل للحقائق العلمية المعتبرة.
غني عن القول إن الكثيرين قد لاحظ أن العروض الحية في الشوارع، تكاد تكون ممارسة طبيعية في الشرق والغرب، بينما تكاد تكون نادرة الوجود في منطقة الخليج العربي، وهي وإن كانت في الشرق معتمدة على المهارات الفردية أو على استخدام الحيوانات في جذب الجمهور، إلا أنها في الغرب تعتمد كثيراً على الإبهار والقدرة على جذب الجمهور واستمالته، ثم تحفيزه على التبرع ببضعة دراهم إكراميةً لفريق الأداء، وهذا في الحقيقة هو المقياس النهائي لنجاح أي عرض، مهما كان بسيطاً أو معقداً.
كانت المحاضرة ضمن فعاليات المؤتمر الأخير للجمعية الأميركية للمراكز العلمية، الذي اختتم أعماله قبل أيام في مدينة "رالي" بولاية نورث كارولاينا الأميركية، الذي يهدف لترويج تعليم العلوم عبر تبسيطها، ومحاولة إيصالها إلى الجميع باستخدام وسائل متعددة، كالمراكز العلمية والمتاحف والأفلام والمهرجانات والمطبوعات ووسائل الاتصال الاجتماعي وغيرها كثير، لكن أحد أهم الوسائل التي تساعد على إيصال الأفكار العلمية بسهولة ودون ممانعة هي العروض المفتوحة، التي تكون مباشرة ما بين المؤدي والمشاهد، والتي يمكن قياس مدى نجاحها بقدرتها على جمع أكبر قدر ممكن من الجمهور خلال دقائق قصيرة. وهنا يشير "ديفيد" إلى أن "البوسكينق" العلمي هو "استخدام حيل علمية بسيطة لإثارة اهتمام وإشراك مجموعة صغيرة كانت تسير في طريق أو تتسكع في مكان ما"، وبالتالي جعل هذه المجموعة تتوقف لتشاهد وتتفاعل مع العرض، والجميل في الأمر أن الحيل العلمّية يمكن الاستفادة منها في غالبية أساليب أداء الشوارع، كما هو الحال مثلاً مع الموسيقيين، الذين من الممكن أن يستخدموا بعض الحيل لجذب الجمهور وجعله يتوقف لمشاهدة الأداء والاستماع لتلكم الموسيقى الصادرة بطريقة غريبة، مثل استخدام أنواع مختلفة من الحجارة لإصدار أصوات متخلفة، أو غيرها من الحيل التي تثير أسئلة جديدة لدى المشاهدين، ويفترض في المؤدي أن يقدم الإجابات بطريقة واضحة وسهلة، أو على الأقل يشير إلى مصادر الحصول على المعلومات الشافية، وهكذا دواليك في عروض الفلكلور وخفة اليد والرسم ومسرح العرائس وغيرها.
يحمل "ديفيد" همّ "فنون الشوارع العلمية" منذ سنوات طويلة، ورغم أنه لا يزال يقدم عروضه المفتوحة؛ إلا أنه أضحى متفرغاً للعمل على تطوير مهارات الفنانين الشباب في مؤسسته " "science made simple أو "العلم وجد بسيطاً" كما يحب أن يصدح دائماً، عبر صقل مهاراتهم العلمية وتجويد مهارات الاتصال كذلك، فما الفائدة من عرض مبهر دون القدرة على التواصل الفعّال مع الجمهور؟ وللتدليل على ذلك قام بعرض بعض حيله الفيزيائية والرياضية، بأسلوب جاف منفّر، ثم بأسلوب فكاهي لطيف، وبالتأكيد فإن الأسلوب الآخير زاد من نسبة تقبل الحضور لأفكاره، خصوصاً حينما وزّع على الجميع بالوناً، وطلب من الحضور نفخه ثم الجلوس عليه، ولك أن تتصور انفجار بعض البالونات قبل أن يجلس عليها البعض! أو إصدارها أصواتاً مضحكة، طبعاً بسبب وزنهم الزائد وهكذا،
أيها الأصدقاء.. ألا نستحق أن يفسح المجال لشبابنا المبدع أن يكشف عن بعض مهاراته وإبداعاته لجمهور حي؟، لا أن يجعلها حبيسة جدران "الاستراحة"، أو خلف شاشة هاتف ذكي! فالمؤكد أن فتح المجال لمثل هذه الطاقات سوف يعود بالنفع على الجميع، الشاب المبدع أولاً، الشارع أو المكان المستضيف، والأهم أن يجعل الجمهور يعيش لحظات مليئة بالمتعة والفائدة، وليس كما الساعات الطويلة التي يقضيها البعض في أروقة الأسواق أو أرصفة الشوارع، دون لحظة دهشة واحدة، ودون فكرة جديدة تثير تساؤلاً مختلفاً.