هل يمكن أن تتضمن اللغة - أي لغة - على معنىً للعنف حين التكلم أو لحظة الكتابة؟ وما الذي يعتري المبدعين شعرا أم نثرا ساعة الولوج إلى الحالة الإبداعية؟ وهل المخيال بما فيه من تسامٍ وتجاوز عن المباشر والمستهلك، والقوالب الفنية المتبعة هما العقمان الوحيدان المتصديان للمبدع؟ تساؤلات تبعث على تساؤلات أخرى يمكن مقاربتها والعمل على تفكيكها عبر استكناه وتتبع ما تعمل عليه اللغة سوسيولوجيًا، حيث يبقى المتكلم مهيمنا وغير متهيب من التهديدات ما دامت دائرة المتلقي منتظمة وقادرة على الاستقطاب ومن ثمّ الخضوع للحظة التأثير، وهنا نمط من أنماط عنف اللغة يتسنى نعته بالـ"التسيد والهيمنة" اللغوية، من جهة أخرى وكما يؤكد "جان جاك لوسركل" فإن للغة سيطرتها على المتكلم الذي يستخدمها بوصفها أداة، حيث تقدم نفسها وفق شروطها الخاصة فتصبح قائدة لا مقودة، وما النحو وقوانين الألسنية التي صاغها ونظمها دي سوسير إلا من قبيل تلكم الهيمنة والتسلط اللغوي، لافتا في كتابه الموسوم بـ"عنف اللغة" إلى أن كتابات المبدعين والشعراء وإشراقات الصوفيين هي من قبيل "المتبقي" من اللغة أو الجزء المظلم منها ذلكم الذي استطاع الروغان من قوانينها وقوالبها الصارمة، مما حدا بالفيلسوف الفرنسي دريدا إلى القول: إن اللغة ليست أداة نستعملها بل هي المادة التي نحن مصنوعون منها.
لقد عمل كتاب "عنف اللغة" على رصد مكامن العنف والعنف اللغوي اللذيذ كما أسماه الفرنسيون مستشهدا بالكناية والاستعارة، إضافة إلى استناده على نظرية فرويد في فوضى العقل الباطن التي هي مبعث المخاتلات اللغوية التي قد تفضي إلى العنف كما نلحظ في الطرف والنكات المتداولة، والهجاء الصارخ والمناظرات الأدبية المعتمدة على المفردات والتراكيب المصنوعة للصراع كما تصنع الأسنة والسيوف كما حدث في المناظرة الشهيرة بين بديع الزمان الهمذاني وأبي بكر الخوارزمي، حيث كانت الكلمات بيادق معركة تفنى تباعا ودون هوادة، ومن ذلك أيضا الألاعيب الكلامية والتوريات والجناسات، وما يحدث من صراع بين الفصحى بقوانينها الحازمة المتأسسة على العلوم اللغوية وبين العامية الناتجة عن الحراك اليومي المستقبل للتطور اليومي في التفاعلات الإنسانية.
وتبقى اللغة النشاط الإنساني الأهم بصرف النظر عن: هل هي من تتكلم الإنسان أم أن الإنسان هو الذي يوظفها أداة خاضعة ومطواعة؟ على أنه في لحظات كثيرة يجد المرء نفسه أمام صعوبة كبرى حين يحاول الاستقلال عنها في الوقت الذي يلفيها تتغلغل في طبيعته البشرية وتتحكم في ملكاته وأنشطته.