ألقت الأحداث السياسية والحروب والصراعات الطائفية التي تجتاح العالم العربي بظلالها على الكتابات الإبداعية، إذ توقفت الكثير من الأقلام عن إنتاج الجديد خلال الأشهر الأخيرة، نتيجة حالة الإحباط التي فرضت نفسها على هؤلاء، حتى إن القاص عمر طاهر زيلع أعلن منذ أيام أن محاولاته لكتابة مشروع في ذهنه فشلت قائلا: "في غمرة الأحداث المحزنة في العالم العربي، لم يعد ثمة حماس لتنويع الكتابة في مجالات أدبية وتاريخية تبدو حين تكتب الآن وكأنها أضغاث أحلام".
وعن أبرز المشاريع الكتابية التي كان يفكر فيها "زيلع" ولم ينجزها بسبب حالة الإحباط وعدم الحماس قال لـ"الوطن": هناك أكثر من مشروع أدبي كان ينتظر الكتابة أو الاستكمال. أكثرها حضورا هو موضوع التردي المحزن الذي آلت اليه معظم المجتمعات العربية، وهو في الواقع نتيجة أخطاء تراكمية من قرون.
وأضاف: ربما يكون حجم ثمن التحول غاليا وطويل الأمد، لكن الكتابة عن ذلك تفتقر إلى قدر كبير من الحماس، لا يمكن توافره أمام تَرَدٍ مايزال في بدايته كما استنتج.
الأحداث المتسارعة تنذر بمزيد من القيود والتبعية على العالم العربي، الذي أكدت المستجدات أنه يزداد عجزا عن حل مشاكله!، وتابع: لك أن تتصور مدى الخيبة في أن العالم العربي مجتمِعا لم يقو على صد مجموعات من المسلحين، تتمدد في أراضيه إلا عن طريق أميركا التي تدافع عنه بالأجرة ـ من جهة ـ ومصانعها تبيع السلاح للمهاجمين من جهة أخرى. ماذا يمكنك أن تقول وأنت لا تستطيع البرهنة على ما تقوله بيقين؟
لكن الناقد الدكتور صالح زياد يختلف مع زيلع في رؤيته للأمر يقول: لو كانت الظروف التاريخية المحزنة أو ما يشبهها من ظروف مخيفة أو صعبة أو صادمة، مبرِّرا لصمت الكتاب والمبدعين، لكان شرط الحالة الإبداعية قائما دوما في الظروف المترفة والراضية عن واقعها.
شعراء مثل محمود درويش عاشوا الدماء والاقتلاع الدائم من أوطانهم والمنفى وتواطؤ العالم، ولم يصمتوا.
أسماء عالمية في مستوى "جورج أورويل" و"كافكا" و"جويس" و"كامو"، كانت الحربان العالميتان جزءا من تاريخ حياتهم، فكان الصراع ضد الفناء أحد دوافعهم للتعلق بالإبداع.
ويستدرك زياد: قد يكون هناك حالة صدمة فردية تختلف بين مبدع وآخر، نتيجة تغير ما في العلاقة بالواقع، كما حدث للشاعر العربي القديم "لبيد بن ربيعة"، أو ما حدث للشاعر الفرنسي الرمزي "رامبو"، لكن هذه الحالات فردية واستثنائية ولا تصنع قاعدة نظرية.
ويعلق أستاذ الأدب بجامعة الملك سعود على ما ذكره زيلع: لكن منطق الأستاذ عمر زيلع منطق مثالي، يعبر عن صدمة مبررة تماما، وناتجة عن أشنع فكر وأشده استعصاء على المعنى الإنساني.
ومن قرأ زيلع في قصته الطويلة "قشور" وفي غيرها سيشعر بالأسى حقا، أن يصل الإحباط به إلى هذا الحد. ذلك أن الواقع الذي مثَّله في قصصه واقع لا يخلو من الشراسة، ولكنه واقع تحتويه القصة بما يبرهن على روح إبداعية منتشية بذاتها، وهي تعيد تركيب الواقع وتصوغه صياغة دالة، على العكس تماما من حالة الصمت والإحباط التي تشير إلى هزيمة المبدع وهي ـ لو تحققت ـ إشارة كونية عظمى على مبلغ الخطورة.
لكن الإبداع لن يصمت أو يجف طالما بقيت هناك دلالة إنسانية في الكائن؛ لأن هذه الدلالة لا تستطيع البراءة من الحلم ولا تكف ـ أبدا ـ عن تخليق معاني السعادة والجمال وتمثيل التحديات الوجودية.
أما الشاعر والباحث الدكتور أحمد قران الزهراني، فيرى الأمر من زاوية جديدة "لم يعد في الوقت متسع للقراءة،، فكيف إذًا بالكتابة في ظل هذه الأجواء الدامية التي صبغت ألوان الطيف بلون أحمر قانٍ لا مجال لتعدد الرؤية من خلاله".
ويضيف قران: ما يمر به وطننا العربي يدعو إلى الحزن ويعبر بنا إلى الكآبة، ثم إلى التأمل في هذه الأوضاع، ومتابعة الأحداث المتسارعة، وبالتالي هذه المتابعة تأخذ وقتا كبيرا من وقت المثقف، الذي أصبح قليلا من خلال مزاحمة وسائل التواصل الاجتماعي له.
السياسيون ينظّرون حسب رؤيتهم ومعتقداتهم ونظرياتهم، لكن المثقف يستطيع أن يرى من خلال وعيه وإدراكه وتحيزه للحق والعدل، يستطيع أن يرى الأحداث واتجاهاتها الواعية، وهو بذلك يراقب، وهو بذلك أيضا يفقد جزءا كبيرا من وقته، وهو بذلك أيضا يشعر بالألم والحزن، وبالتالي ينفصل عن ماهية الكتابة وجمالياتها.
كل هذه الأحداث المأساوية تجعل المبدع في حالة إحجام عن الكتابة الإبداعية، وإن كتب فسيكون لتلك الأحداث تأثيراتها السلبية على النص.
ويختم رأيه بالتأكيد على أن "هذه الأحداث من حولنا لا تحفز الإنسان إلى إعادة نظره في الحياة والجمال والتشبث بها، لهذا تجده يلجأ إلى الصورة ليقرأ معالم الأحداث واتجاهاتها، وما ستؤول إليه رغم قسوة المشهد وضبابيته والانكسار الذي تمر به الأمة".