ليس ترفاً أن تحتفل الدول بيومها الوطني، وهو ليس من باب الوجاهة فقط أن تحتفي شعوب هذه الدول بمناسبة كهذه. فإذا كان الاحتفال باليوم الوطني لكثير من الدول فيما مضى يعد رمزا لسيادة الوطن، وتذكيرا واعتزازا بوحدة الوطن، وتفاخرا وانتصارا على أعداء الوطن، دولاً أو جماعات، فإن مفهوم اليوم الوطني المعاصر، هو احتفاء بالمواطنة مثلما هواحتفال بالوطن. فالمواطنة هي الوطن بكل ما يعنيه الوطن ماديا وأدبيا من مفهوم في دستوره ومواطنيه وأرضه وعلاقاته وأنظمته ومؤسساته وخططه ومشاريعه وأزماته وصعوباته وأحلامه وطموحاته.
أصبح مفهوم المواطنة الحديث أمام تحديات جديدة بسبب ما أفرزته معطيات التقنية الجديدة من تقليص للمسافات والفجوات الحضارية والجغرافية والتاريخية بين الدول والشعوب، ونتيجة للتطورات المتلاحقة في مفاهيم عصرية أسهمت في تقارب الدول وتشابك مصالحها وتوحيد الكثير من تجارتها الحرة وعمالتها وعملاتها وتعاملاتها بما اصطلح عليه بالعولمة.
كما قفزت إلى الواجهة - في كثير من الدول- تحديات المفاهيم القديمة وبعناوينها الجديدة، إنها إعادة إنتاج انتماءات قديمة متجددة مثل القبائلية والمناطقية والمذهبية والطائفية، بعد أن ظن البعض أنها انقرضت أو توارت إلى الأبد في ظل التعليم والتقنية والثقافة، لكنها ما لبثت أن عادت إلى الواجهة تغذيها إما المصالح الضيقة أو تأثيرات إقليمية أو دولية أو أنها جاءت لسد فراغات ثقافية.
إنما جاء اليوم الوطني ليجسد مفهوم الوطن والمواطنة من خلال المساواة بالحقوق والواجبات بين المواطنين بغض النظر عن القبيلة أو العائلة التي ينتمون إليها أو المناطق التي يقطنونها أو المذاهب والطوائف التي ينتسبون إليها والجنس الذي خلقوا عليه.
المواطنة الحقة هي التي تجعل الانتماء للوطن فوق الانتماء للعشيرة أو القبيلة والمنطقة والمذهب والطائفة. كما أن المواطنة هي ضمانة المواطن في المساواة وإتاحة فرص التعليم والصحة والعمل والمسكن، وتلك هي المساواة التي تعاقب المسيء والفاسد والظالم والمزور والمجرم بذات الآلية التي تكرم و تكافئ المتفاني لوطنه والمخلص له بعمله وعقله وضميره ووقته وما يملك.
لا نستطيع أن نلغي الانتماءات للقبائل والطوائف والمذاهب والعرقيات والمناطق ولا يجب ذلك، لكن على الدولة ألا تسمح لهذه الانتماءات أن تتورم وتنتفخ أكبر من حجمها الطبيعي وألا تقدم نفسها بديلاً عن الانتماء للوطن كمظلة أشمل وأعمق وأحدث لكل تلك الانتماءات. وهذا يتأتى من خلال تقديم الدولة لنفسها وأنظمتها وقوانينها وخطط التنمية والميزانيات ورقابتها وحق المساءلة بعدالة وأن يسود مبدأ تكافؤ الفرص وليس تكافؤ الأنساب. بعض هذه الانتماءات الجزئية ليست منتجاً محلياً صرفاً، فبينها ما هو منتج إقليمي أو منتج عالمي، وهذا ما يحتم على الدولة السرعة في وضع الخطط ورسم السياسات التي "تقزم" تلك الانتماءات الجزئية بالتنمية المتوازنة ومحاربة الفساد والحد من الواسطة والمحسوبيات والاحتكار والاستئثار ومراقبة الأموال العامة وتطبيق برامج التدوير الإداري في كل الإدارات المالية والإدارية لأجهزة الدولة، ووضع برامج متوسطة وبعيدة المدى للحد من ظاهرة البطالة بين الجنسين.
وحين تنجح الدولة -أي دولة- في تحقيق مفهوم المواطنة لمواطنيها، هي في الحقيقة تكون قد حققت قوةً وحصانةً للوطن ككل، وفوتت الفرصة على كل من يريد التلاعب والاستهتار بالوطن والمواطن. والمواطن السوي لا يمكن أن يفرط في نعمة الانتماء للوطن ونعيم حياة المواطنة.
نعم للوطن أن يحتفل احتفالا بهيجاً يتجاوز شاشات التلفزة وصفحات الصحف، والطابور الصباحي ليلامس الأرض إنجازاً والفضاء فرحاً وانتشاءً ويحتفي فيه المواطن بمواطنته الإيجابية. ومن هنا حقَ لنا أن ننادي بأن يكون اليومُ الوطنيُ القادمُ يوماً لتكريم أبرز المواطنين والمواطنات الذين عملوا للوطن عملاً غير عادي في أي مجال علمي، عسكري، أمني، صناعي، اجتماعي، ثقافي، أو كشف ومحاربة الفساد والمحسوبيات والواسطة وتسجيلهم في لوحة شرف الوطن أمام الملأ وعلى رؤوس الأشهاد، يوماً نزف به المشاريع العملاقة للوطن، يوما للاحتفال بالرقم القياسي الوطني الزراعي والمالي والصناعي والبترولي والاجتماعي والأكاديمي والعلمي والبيئي والطبي والثقافي... إلخ. يوما تؤدى خلاله العروض المسرحية وتنظم فيه المسيرات لتجوب الشوارع والميادين العامة مصحوبة بموسيقى القربة العسكرية، إضافة إلى فعاليات ثقافية وتراثية بكل ما تزخر به المملكة من موروث. فضلاً عن عقد الندوات العلمية، في مختلف مدن ومناطق المملكة، لاستزراع التسامح ونشر المحبة والألفة.
من هنا، كان لا بد للوطن أن ينتشي وأن ينشد سيمفونية عشق، يطرب لها من صنع الإنجاز ويتشارك بترانيمها المنتمون كل المنتمين لحناً يضعه المخططون ويعزفه المسؤولون المخلصون في مؤسسات الدولة المختلفة ويتغنى به المواطنون بضمائرهم وأذهانهم قبل حناجرهم. كان لا بد للوطن من يوم يؤكدُ فيه أنه يمضي بالإنجاز والإصلاح في قارب واحد تحت الضوء يتشارك الجميع في إيصاله بر الأمان بضمير وبشفافية.