الساعات القصيرة التي انقضت على متن الطائرة المتوجهة إلى مطار غزة الدولي كانت سنوات من شريط الذاكرة التي بدأ في سردها ذلك الطبيب النرويجي الذي قضى فترة غير يسيرة من عمره متطوعاً أثناء صراع الشرق الأوسط قبل أكثر من عشرين عاماً.

لم يستطع الرجل السبعيني إخفاء سعادته بعد الغياب الطويل. تحدث لكل من حوله، للمضيفة وللركاب إلا أنه تعمد الحديث بإسهاب لذلك الشاب العربي الذي يجلس بجواره.

سأله الشاب: هل هذه زيارتك الأولى إلى غزة؟

أجابه:

- بل هي الأخيرة على ما أعتقد.

ثم أسهب: ترددت على غزة في سنوات الحصار التي مارسها النظام الإسرائيلي في الحقبة التي امتدت بين عامي 2006 و2014، حيث إن القطاع تم حصاره بشكل كامل وأصبحت الحياة شبه مستحيلة إلا أن الصمود الخارق للعادة من أهل غزة ومن رجالها والتضحيات الجسيمة التي تكبدتها الأسر بفقد أطفالها ورجالها وهدم بيوتها وتجويعها أتت أكلها بعد حين.

كنا يا بني نعمل تحت ظروف صعبة جداً للأطباء، الإصابات والحالات الطارئة التي يجلبها الإسعاف كانت تفوق إمكانات المستشفى المركزي الوحيد في ذلك الوقت إلا أن الهمة العالية والشجاعة الفائقة للأطباء والكادر الطبي كانتا مبهرتين للغاية، العمل لا يتوقف، كنا نمضي دقائق فقط للاستراحة وتناول بعض المرطبات لنتمكن من الاستمرار بالعمل.

الدمار الذي خلف خسائر في الأرواح يصعب تصوره، الرجال الذين عاصروا تلك الأيام هم أشبه بالأساطير، كانت الأمهات يستقبلن أبناءهن الشهداء بالورود والزغاريد، كن يقدمنهم فداءً لتلك الأرض المقدسة وكانت مشاعرنا وأرواحنا تحلق عالياً، كانت مع الأنبياء يا بني.

رغم هذا الدمار الهائل والقصف البربري فقد خرجت غزة منتصرة، في اليوم التالي بدأت ورشة العمل لإزالة الركام وبداية الإعمار، والمفاوضات التي استمرت بعدها شهوراً عديدة هي التي آلت إلى ما أنتم عليه الآن وتحول ذلك السجن والحصار الذي عانت منه غزة طويلاً إلى هذه المدينة الجميلة التي ترونها الآن والتي سنهبط في مطارها بعد قليل.

الحقيقة التي غُيبت طويلاً، وإن استطاعوا حجبها عن البشر لعقود طويلة إلا أنهم لم يستطيعوا ذلك مدى الدهر، الأحرار في كل أرجاء الكون تمكنوا من إدراكها بعد سنوات الصمود والتضحية الهائلة التي قدمها أسلافكم.