لست هازلا ولا ينبغي أن يكون هذا حال المشتغلين على آمال وآلام أمة نحن فيها من غربة إلى اغتراب.. ولا أرغب في مزج الجد بالهزل لتدجين مزاج متذمر ساخط (ناسف) تشويه الحرقة وينوشه الكمد.. لكني أبحث عن تفسير منطقي يستكشف عقد الاضطراب المتغول في واقعنا اليمني خاصة والواقع العربي على وجه العموم. صار علينا أن نبحث وكثر غيرنا في المنطقة العربية والعالم باتوا يبحثون مثلنا عن تفسير معقول يعين على وضع الأحداث المروعة ضمن سياق سياسي واضح يخفف من أعباء العقل المجهد في تتبع الظواهر المنفلتة عن زمام الوعي، وما ينشأ عنها من مفارقات عبثية تستعصي على المنطق وأدواته المعتبرة في تحليل السلوك البشري ودراسة الاتجاهات العامة والتبدلات الغوغائية للكيانات والنخب الاجتماعية والسياسة، سواء منها المسيجة بغطاء (المشروعية) ويقصد بها النظام السياسي المعبر عن إرادة الشعب والمحكوم بقواعد العقد الاجتماعي، أو تلك التي تتخلق في جنح الظلام وتقف خلفها أيديولوجيا سياسية –دينية– طائفية.. إلخ.
وأن يقف العقل حائرا في لحظات تاريخية تتجاوز مألوفات الناس وتتعدى جدليات الصراع وقواعده المنطقية فمرد ذلك انحراف حركة التحولات الطبيعية عن مسارها التاريخي وخروج عجلة التطور عن خط سيرها الديالكتيكي، ما يعني الإبقاء على مجتمعاتنا العربية في بؤرة الإعاقة وانفراد قوى التخلف بتدوير صراعاتها البينية المرتهنة لريموتات الاستعمار الخارجي بشقيه الدموي والناعم.
يعزو المفكر العربي برهان غليون في مؤلفه الموسوم (اغتيال العقل –محنة الثقافة العربية بين السلفية والتبعية-) إشكالية الاضطراب القيمي إلى: "الهدف من هذا الانتقال السريع من العالمية إلى الخصوصية، ومن الإنسانية إلى الشعوبية؛ هو تبرير العنف وفقدان الديموقراطية وتدهور العلاقات الإنسانية، بل زوالها في العديد من هذه النظم الحديثة. فقد كان (التأثير الخارجي) عظيم الفائدة عندما كان ملائما لتكوين النخبة الحديثة وتحقيق تمايزها عن الجماعة وتأكيد سلطتها، وأصبح الآن مضرا ومخربا لأنه يذكر هذه الجماعة ذاتها، وفي كل يوم، بحرمانها من كل الحقوق المدنية والسياسية، أي بإنسانيتها".
ولهذا فإن لدينا من الأسباب الوجيهة ما يدعو للحديث عن مخارج استثنائية ربما بدت للوهلة الأولى نوعا من المزاح المتعابث الساخر لكنها (الأسباب) عند التأمل في خاصيات أوضاعنا الداخلية (قطرياً) تأخذ منحى الضرورة.
واقع الحال أننا أحوج ما نكون إلى مدينة عالمية للطب النفسي بحيث لا يسمح لمشتغل في الشأن العالم في بلداننا بتقلد زمام المسؤولية أو المشاركة في صناعة القرار القومي والوطني أو تصدر المهام المنوطة عادة بالنخب السياسية والفكرية والدعوية، دون الحصول على إجازة طبية بسويته النفسية من أمراض التضخم (الأنا) وتأثير الدونية، أي المشاعر المضمرة بندب التمييز الاجتماعي وخلوه من نزعات الاستبداد ولوثات العقل السياسي المريض والسلامة من أعراض المكابرة وازدراء الآخر وحب التملك والمغامرة.
لو كان لدى النظام الإقليمي بمؤسساته الضخمة إدراك عميق بجوهر الخلل التربوي والثقافي الذي حط من شأن الأمة وأردى قياداتها المرموقة ما كنا لننتظر المزيد من مزالق الضياع، ولكان بوسعها تفادي الكثير من معضلات الواقع من خلال الوقوف على المنابع المنتجة لكوامن الاستبداد لا التعامل مع أعراضه.
نحن في الحقيقة ضحايا أمراض زعامية وتشوهات نفسية ونزوات فردية تتناسل وتنمو في بيئة شديدة التخلف، ما يجعل منها نسقاً ممتداً من كوارث لا تنتهي في مكان إلا لتبدأ طوراً درامياً أكثر خطورة وفتكاً في مكان آخر.
هل كانت أوضاع العراق وسورية وليبيا لتصل إلى هذا المستوى المخيف من الانحدار لو توسط العلاج النفسي في تشخيص السياسات الزعامية الفردية ببعدها النفسي السيكولوجي؟
وهل كانت أوضاعنا في اليمن تبلغ هذا القدر الفاجع من الانهيار لو أن الأشقاء في دول المبادرة الخليجية تعاملوا مع الحالة النفسية للرئيس السابق بعيد محاولة الاغتيال التي طالته وعدداً من أركان نظامه فيما عرف بجريمة (النهدين) بشيء من ضمادات الطب النفسي بمستلزماته الطبيعية من العدالة الناجزة؟
أمضى صالح ورفاقه في نفس الجريمة الغادرة نحو شهرين، رهن رعاية سعودية فائقة رممت تشوهات الجسد لكنها أبقت جراح القلب مرجلاً.. ذاك من نقمة تعاقب الشعب على ثورته السلمية كما تتعقب الخصوم وشركاء الغدر.
أعود لتناول هذه الجزئية وعلاقتها بالتطورات المأساوية الراهنة لاحقاً في سياق التأكيد على مخاطر المجازفات العربية التي تعتمد دروشة السياسة مفتاحاً لمختلف المشكلات على حين تجيز شرعنة اغتصاب السلطة بمبرر الشراكة سبيلاً للمداراة وجبر الضرر.
في اليمن كما في غيرها من أقطارنا العربية، حاجة للمعرفة وحرية التفكير وسيادة القانون.. حاجة ماسة للإنفاق على البحث العلمي والتنمية البشرية لمواجهة مأزق الإشباع الذاتي عن طريق الارتهان للتفوق.. وفي أوطاننا حاجة ملحة لمعرفة ما لا يروق لنا الاعتراف به من حتميات التغيير بالأفضل، انطلاقاً من قناعة مشتركة بقدرتنا على القيام بإنجاز معادلات وجودية تحمل خصائص وسمات أوطاننا وتعبر عن تطلعات شعوبنا إلى مستقبل مشرق لا تسوده ظواهر الصدام بالآخر أو تهيمن عليه فكرة الإملاء وسياسات زرع بؤر الاحتراب.. لكن البداية السليمة تكمن في الاعتراف بأمراضنا النفسية، وإذا لم يحدث ذلك فسيظل الخطر ماثلاً بين بذر شتلات التطرف لأغراض الابتزاز من ناحية وتحويل بلداننا من ضحية إلى متهم بالجناية من الأخرى.