رحل العام المنصرم كموجة عارمة وغيمة فولاذية تقضم أسنانها، لما فيها من عويل مسفوح وأمل مذبوح وجراح تفح كالأفعى، وبشر يركضون في المنافي كخيول شاردة، لا يحملون حتى حقائب سفرهم أو مفاتيح أبواب دورهم، تبرق أعينهم بالغضب الصخري وجمرة الرعب، والخطوات المنهكة والغائرة في موحش المنافي وعتمة المغارات، لم ينضوا عن أجسادهم ثياب الحداد، ولم تخفت أو تغيب عن أرواحهم المطفأة والمدماة سلاسل السجون، وحبال المشانق وأحذية الطغاة، ومصارع الأبرياء، يجتاحهم كالطاعون ذلك المستبد الرجيم الهارب من خرائط الإنسانية، المعربد في أقبية القراصنة والسفاحين، المحفوظ في خرائب التاريخ المسيج بلعنة العصر وعصاة الشياطين، يهبط كالليل الأعمى والرماد المسف والقطران السام والفحمي، يقتل، يذبح، يفجر، يدمر، يحرق، مسكون بالموت والسم والديجور المنقوع في سراديب روحه المظلمة.
أيها العام الجديد: لماذا يكره هؤلاء القتلة والأصنام براءة الأطفال وضحكتهم، ونوافذ الشمس، ويمام البيوت، ونبع الماء، وأنفاس العصافير، وركض الغيوم، وبوح الشعراء، وبروق المطر، وفرح الأشجار، ورقص الأزاهير، وثرثرة السنابل، وتمتمة الأنهار، ورضاب العشب، واندلاع الفجر؟ لماذا تستيقظ في دواخلهم رماح الكراهية، ومجرات الجحيم ومستنقعات الرذيلة؟ إنهم قادمون من العدم وذاهبون إليه، فالضحية ستنهض من تحت سياط الجلاد، والطائر المقيد سيغادر قفصه، والهارب سيعود لفردوسه المفقود ويعيد ما سرقوه من صندوق أجداده ، واللاجئ سيحمل فانوسه في الظلمة البكماء، ليشعل الدهاليز والمتاهات بالنور والحياة، والثائر سيهدم جدران الوهن، وستنتهي حفلة القهر وعبث الفجور، ورائحة الموت، وكما يقول مصطفى أمين: "جبابرة الأمس قد يصبحون أقزام اليوم، وأسود اليوم قد يصبحون فئران الغد، والعز لا يقف أمام باب واحد إلى الأبد ، فيا رب لا تجعلني سوطاً في يد ظالم، واجعلني مرهماً في يد جريح أمسح به جروحه، اجعلني منديلاً في يد باكٍ أجفف به دموعه، واجعلني شمعة في يد بائس أضيء به ظلامه، يا رب: املأ قلبي بحب كل الناس، لا تترك فيه مكاناً لحقد أوكراهية أو بغضاء أو انتقام، اجعلني كبيراً حتى أعفو ولا تجعلني صغيراً حتى لا أبطش، إن اشتداد الظلم دليل على اقتراب مصرع الطغيان، لا تيأس من رحمة الله لو تأخرت، ستأتي لتحمل الترياق للمسموم، والدواء للمريض، والأمل لليائس، وتنتزع المرارة من الشفاه، كلما كان الظلام يحيط بي كنت أرى قبساً من نور الله يفتح طاقة لي في السماء، أرى في نورها الأمل، انتظرْ سوف تدق رحمة الله بابك قل: يا رب".