الإنسان يسعى لاهثا منذ أن وُجد على الأرض حتى يومنا هذا إلى البحث عن ذاته. فالبحث عن الذات أمر فطرنا الله سبحانه وتعالى عليه! فترتب على ذلك كل العناء والكبد الذي ذكره عز وجل في محكم كتابه الكريم "لقد خلقنا الإنسان في كبد" الآية. هذا البحث الدائم لدى الإنسان هو ما يفسر سعيه الدؤوب، كل حسب اتجاهه، وهو ما ترتبت عليه نظرية الذات والموضوع، أي اللهاث المستمر منذ الولادة حتى الممات في محاولة (التحام الذات بالموضوع)، وفي بعض الأحيان نجد بعضنا يشتكي ويقول: "لم أجد نفسي في هذا أو في ذاك"، فيسفر عنه بحث دائم ومستمر. ولذلك نجد أن الناس طرائق وأساليب شتى، وهذه سمة عامة نتيجة هذا الصراع الدائم مع الذات! إلا أنه يجمعها شيء واحد تذوب جميعها في بوتقته وهو (الفن)، فالفن هو ذلك السحر المشروع لتخلل الوجدان وتخلل الذوات، وصياغة الحس البشري بإحساس فطري رقيق، لا يقبل العنف، ولا التطرف، ولا القتل، ولا الشراسة، ولا الأنانية، ولا كل ما هو مغاير للحس الإنساني بمعناه اللين الدافئ العذب المهذب.
الفن ضد التطرف في المشاعر، فهو يعمل على تربية الوجدان، وهي أهم ما يتطلبه يومنا هذا في ظل التطرف المشهود الذي ينتهي بالإرهاب والقتل بلا هوادة! ولعلنا نستشف ذلك من مشروع قام به "المايسترو" سليم سحاب حيث جمع أطفال الشوارع، وهو المايسترو الكبير الذي تهتز له جدران الأوبرا في كل بلاد العالم حينما يعلن عن سمفونية أو مقطوعة تضج بها آفاق الفن المحلي والعالمي، إلا أنه نزل إلى الشارع واستفزه منظر طفل في الشارع يطلب صدقة، فقال: ولم لا يصاغ وجدان هؤلاء الأطفال خاصة أنهم أصبحوا خطرا على المجتمع حينما تجاوز عددهم الملايين وبدون مأوى أو هم في دور الأيتام قذفت بهم الظروف إلى هذه الأمكنة، وبطبيعة الحال لن يكونوا أسوياء على مستوى الصحة النفسية مهما تدرجت الأمور! ومن هنا كوَّن فريقا من هؤلاء الأطفال من جميع الأقطار، فشاهدنا أطفالا طموحين يصدحون بأصوات جميلة في سماء الفن. وبهذا فلم يكن مشروع سحاب من أجل التقاط أصوات جميلة فالكل يتمنى طرق باب سليم سحاب، وإنما من أجل صياغة الوجدان وخدمة المجمتمع وإصلاح بؤبؤ المضغة الكامنة في دواخل النفس البشرية. ونحج سليم سحاب وأقسم على نفسه أن يطوف بهم العالم! فليس بالأكل والشرب والنوم يحيا الإنسان، إنما يحيا بالوجدان المُصاغ على قريحة تضمه إلى حضن المجتمع الودود بعدما نفر منه. مشروع إنساني وإبداعي أعده سحاب، أكبر قيمة من بناء ألف مدرسة.
يقول بعض المنضمين إلى سحاب على حد قول سحاب نفسه: "كنت قد انضممت إلى أحد الفرق الإرهابية وأتدرب على القتل، إلا أنني الآن لا أستطيع أن أدهس نملة". هذا هو دور الفن في صياغة الوجدان وشحذ الإحساس.
إن الفن في بلادنا يستقبل بالاستهجان والاحتقار من بعض أفراد المجتمع، وذلك لجهل هؤلاء بمدارج الفن دواخل النفس البشرية هذا أولا. وثانيا لتدني الفنون في أغلب الأحيان. والفنون جميعها تعمل على مداعبة الوجدان، ألم نر الطفل يسترخي وينام على هدهدات أمه وهي تغني له؟ هذا لون من ألوان الفن، وتلك هي الوظيفة المستعجلة والعاجلة حيث يغط الطفل في نوم عميق ودون استئذان! وكيف نجد أجدادنا يأنسون من وحشة الطريق بحداء الإبل؛ وكيف ينشد الشعراء في المعارك وتقرع الطبول فتلهب الحماس!
إن إهمالنا للفنون جميعها وتدريب ذواتنا على تذوقها؛ خلق بيننا أناسا شديدي التطرف، والنفس البشرية السوية لا تعرف التطرف على الإطلاق، وإنما إذا ترك الوجدان يجنح إلى طرف عن طرف فذلك هو التطرف، وتربية الوجدان والإحساس لا تأتي بتداول الفنون بل تأتي بالتدريب على التذوق، وهذا هو مثل ما يقول المثل الشعبي (مربط الفرس).
لماذا نستعيب الفن ونحط من قدر الفنان في بلادنا؟ لماذا لا نعلم أبناءنا التذوق الفني لصياغة إحساسهم، وتربية وجدانهم على الحس المرهف؟! أليس الشعر فنا ونحن من نبغ أجدادنا فيه؟ فالفن هو جهد البشرية للوصول إلى التكامل مع الأشكال الأساسية الموجودة في الكون ومع الإيقاعات العضوية للحياة، ولذا كان الحديث عن الأشكال الحديثة في الفن محاولة للوصول إلى هذا التكامل بدأ من البدائية حتى الفنون الحديثة التي تأثرت بها، فلا نستطيع أن نتحدث عن المخترعات الحديثة على أنها صناعات فقط، ولكنها تتخذ من الأشكال الفنية متعددة الأبعاد قيمة جمالية تتمايز بين فرد وآخر، والإحساس بالجمال لا يتوقف على إدراك أبعاد أي جسم مرئي، ولكنه يبدو منجذباً تجاهه تدفعه رغبة في امتلاكه عبر أحاسيس ومشاعر وخبرة جمالية، وتلك الآثار التي تجمع حضارات الأمم بين طياتها هي وإن بدت متباينة في مبناها متجانسة في معناها هذا لأن الفنون جميعا تنبع من مصدر واحد، وهو الشعور الإنساني المضطرب في نفس الفنان، وتستهدف كلها شيئا واحدا هو نقل هذا الشعور نفسه إلى نفس الآخرين حتى يخرج الفنان عن نطاق ذاته إلى رحاب الآخرين، ويفلت من فرديته ليذوب في الجماعة المحيطة به، وهو الإحساس الذي يحقق التوازن الحقيقي في النفس البشرية، فلم تكن كل النظريات والأساليب الفنية المتنوعة إلا محاولة للوصول إلى شيء خارج نطاق الأبعاد الهندسية المحددة، فما هو إلا تجسيد للحركة القَلِقة في الفن، إنه يبحث عن الحرية من أجل تحقيق تأثير جمالي بغير ما اعتبارات نفعية.
وقد كان (باتينيرا وروبنز وبوسان وكلولدو كورت) يقدمون الفن بهدف الإيحاء في تصويرهم لحالات معينة من الإحساس، ذلك الإحساس الذي لا يوجد لوصفه كلمة أفضل من الإحساس الشعري أو حتى الرومانسية في أوجها كانت تهدف إلى التخلص من العالم الذي يقيدها بقواعد وأغلال فنية محددة إلى عالم في بعض الأحيان خيالي أشبه بالفنتازيا، وفي أحيان أخرى في صورة أحلام أشبه بالسريالية، فجميعها تدعو إلى شيء خفي مسيطر قوي يتخاطب مع الوجدان ومع العقل والعقيدة جميعها كانت تهدف إلى شيء فطري كرسوم الأطفال لم تستطع تسميته أو تحديده.. يدفعك إلى تأمل العمل الفني حتى وإن اتسم بالرداءة وضعف القيمة، فرسوم الأطفال تدفعك إلى تأملها والفن الشعبي يملك عليك لبك، إنهما يقتربان من الأشكال البدائية ويفترقان في مناطق تتعلق بالوعي والإدراك وفنون الخط العربي لها إمكانات تلفت النظر إليها رغم أنها لا تبدو مجسدة بل أقرب إلى التسطيح والتجريد، ففنون الأطفال وإن كانت تنبع من فطرية إلا أنها تلتقي مع المستوى الإدراكي للفن الشعبي، وقد يشعر المرء بارتياح لعمل مجسد ذي أبعاد ثلاثة ليضيف بمعرفته بعداً رابعاً، ولكنه يظل مشدوهاً نحو عمل غير مجسد يعرفه، ولكنه يؤثر فيه ويداعب وجدانه.
فإذا ما تحقق ذلك فلن يخرج منا داعشي واحد؟