أكتب هذا الأسبوع من مدينة "مِلبورن" حيث عُقدت أول جولة لـ"منتدى التجارة والاستثمار بين مجلس التعاون وأستراليا"، ويشكل المنتدى جزءاً من الحوار الاستراتيجي الذي بدأ بين الجانبين في أبوظبي في مارس 2011.
فعندما بدأت أستراليا ومجلس التعاون حوارهما الإستراتيجي منذ ثلاث سنوات، دخلا مرحلة جديدة تجاوزت مجرد التبادل التجاري -الذي لم يكن كبيراً على أية حال- إلى الحوار السياسي والأمني، والتعاون في مجال الطاقة، والتعليم والثقافة والتواصل بين الشعوب. وما نراه اليوم من العمل العسكري المشترك بينهما، في محاربة (داعش)، هو مثال لما وصلت إليه تلك العلاقات. وتركز النقاش في المنتدى على تحديد المجالات الواعدة للتعاون المثمر والسريع، وكانت هناك مناقشات صريحة عن التحديات التي يواجهها الجانبان وكيف يمكن أن يعملا معاً على مواجهتها.
وترددت كلمة (التنوع) كثيراً في المنتدى. فلدى أستراليا مشكلة في عدم تنوع القاعدة الاقتصادية، وهي مشكلة أكبر لدى دول المجلس طبعاً. فكلاهما يحتاج إلى زيادة حصة الصناعات التحويلية والخدمات في الاقتصاد بدل التركيز على إنتاج المواد الأولية. وبالمثل يحتاجان إلى تنويع صادراتهما.
وتواجه أستراليا، مثل دول المجلس، نقص الأيدي العاملة. ولكنهما اختارا حلولاً متباينة. فأستراليا تقتصر من العمالة الأجنبية على الضروري فقط، وتركز على المكننة والتقنيات التي لا تعتمد على كثافة الأيدي العاملة، في حين تتبنّى دول المجلس سياسات مفتوحة لاستقدام العمالة الرخيصة التي أصبحت تفوق في أعدادها السكان الأصليين في معظم الحالات، وتستخدم تقنيات تعتمد على كثافة الأيدي العاملة.
ومع هذه التحديات المشتركة، يواجه كل منهما تحديات خاصة. فأستراليا مثلاً تحتاج إلى تنويع أسواق صادراتها بحيث لا تظل رهينة الطلب في دول قليلة قد تواجه تقلبات اقتصادية. وأستراليا كذلك تواجه عجزاً مستمراً في ميزانها التجاري، بخلاف دول المجلس.
وبالمقابل، تواجه دول المجلس مشكلة الاعتماد شبه الكلي على العمالة الأجنبية لسد النقص الحاد في العمالة الماهرة التي يتطلبها سوق العمل، وهو نتاج عجز الجامعات المحلية عن توفير خريجين تتوفر لديهم المهارات المطلوبة. وتحتاج دول المجلس كذلك إلى تنويع مصادر الدخل الحكومي، الذي يعتمد حالياً على دخل النفط والغاز، مما يجعلها عرضة لمخاطر التقلبات في أسعارها.
وتناول المنتدى بشكل مفصل هذه التحديات، وكيف يمكن تحويلها إلى فرص يستفيد منها الجميع. واتفق الجميع على أن ثمة إمكانات كبيرة لم تتم الاستفادة منها، باعتبار ما يقدمه الاقتصادان الأسترالي والخليجي من فرص. فحجم الاقتصاد الخليجي يبلغ نحو (1.75) تريليون دولار، والأسترالي (1.56) تريليون، أي ما مجموعه (3.3) تريليونات، وبالمقارنة مع هذا الحجم تبدو العلاقات الاقتصادية بينهما محدودة. صحيح أن التبادل التجاري بين أستراليا ودول المجلس تضاعف عدة مرات، من (4) مليارات دولار في عام 2001 إلى فوق (12) مليارا العام الماضي؛ إلا أن ذلك في منتهى الضآلة عندما يقارن بالإمكانات المتوفرة.
والحقيقة أن اندماج الاقتصاد الأسترالي في الاقتصاد العالمي عامةً محدود، عندما نقارن تجارتها الخارجية بحجم الناتج المحلي الإجمالي. فوفقاً لمؤشرات البنك الدولي، يشكل مجموع صادرات وواردات أستراليا نسبة (40)% فقط من الناتج المحلي الإجمالي. وتصل النسبة المقابلة في دول المجلس نحو (100)%، وفي الإمارات العربية المتحدة -الدولة التجارية بامتياز- تتجاوز النسبة (170)%.. أربعة أضعاف أستراليا.
هناك مشكلة تركيز الصادرات؛ إذ تشكل صادرات أستراليا من المواد الأولية مثل الحديد والنحاس والذهب والنفط والغاز، ومنتجات الزراعة، أكثر من (60)% من إجمالي صادراتها، وهي في ذلك تتشابه مع دول المجلس التي تتركز صادراتها في البترول. وتعاني أستراليا كذلك التركيز في أسواق صادراتها، حيث تشكل الصين نسبة (32)% واليابان (16)% من إجمالي الصادرات.
ولذلك تسعى أستراليا إلى تنويع صادراتها وتنويع أسواقها، ويمكن لدول المجلس أن تساعد في تحقيق هذين الهدفين. وتسعى أستراليا إلى زيادة صادراتها من الخدمات، حيث يشكل التعليم والسياحة أهم تلك الصادرات. فالسياحة، إذا أضفنا إليها سياحة العمل، فوق (5)% بقليل من إجمالي الصادرات، في حين يشكل التعليم أقل من (5)% بقليل.
وكما كتبتُ في مقالات سابقة، فإن أستراليا قد لا تكون وُجهة سياحية مفضلة للكثيرين، ولكنها في التعليم تتمتع بميزة واضحة. فكون لغتها الرئيسة هي الإنجليزية تجتذب الطلاب من جميع أنحاء العالم، ويجذبهم كذلك وجود جامعات ذات سُمعة دولية معروفة. وتقدر وزارة التعليم الأسترالية عدد الطلبة الأجانب بنحو (527,000) طالب وطالبة، منهم (230,000) في التعليم العالي، و(135,000) في المعاهد الفنية والتدريب. وكان عدد الطلاب الأجانب قد بلغ أعلى مستوى في 2009، حين تجاوز (631,000)، وربما يعود الانخفاض منذئذٍ إلى الأزمة المالية العالمية التي أثرت على قدرة بعض الدول على الابتعاث.
ويُقدر عدد طلاب دول المجلس الذين يدرسون في الجامعات الأسترالية بنحو (20,000) طالب، معظمهم من المملكة الذين يشكلون نحو (75)% من الإجمالي.
قام بتنظيم منتدى ملبورن الأمانة العامة لمجلس التعاون مع شركائها في وزارة الخارجية والتجارة الأسترالية، وحكومة ولاية (فيكتوريا)، وسفارة دولة الكويت، دولة الرئاسة الحالية في مجلس التعاون. وحضره من الجانب الأسترالي عدد من الوزراء وكبار المسؤولين من الحكومة الاتحادية في كانبرا وحكومة فيكتوريا، وأكدوا على الأهمية التي تعلقها أستراليا، وفيكتوريا، على العلاقات مع مجلس التعاون. وشارك فيه كذلك ممثلون عن القطاعات الاقتصادية الرئيسة. ومن جانب مجلس التعاون شارك في المنتدى عدد من كبار المسؤولين من الدول الأعضاء والأمانة العامة، ورجال الأعمال واتحاد غرف التجارة الخليجي.
وفي مؤشر آخر لتنامي العلاقات الاقتصادية، سيعقد (مجلس الأعمال السعودي الأسترالي) اجتماعه الأول في ملبورن الأسبوع القادم، ويأمل الجانبان أن يبنيا في المجلس على ما تم التوصل إليه هذا الأسبوع في منتدى التجارة والاستثمار الخليجي الأسترالي.