اتصل أحد المستمعين ببرنامج إذاعي صباحي الأسبوع الماضي.. راح يحكي قصته الأليمة للمذيع، شاب في الثالثة والعشرين، تزوج فتاة يحبها، لكنها وبعد عامين غادرته، بلا سبب بحسب زعمه، سوى أنها لم تعد تريده. انتهت به حاله الحزينة إلى جلطة في القلب، واكتئاب واضح وفظيع يطفح من طريقة كلامه ونبرة صوته. حسناً، كيف تعامل المذيع معه؟ المؤسف، المؤسف جداً، أنه خرج من دوره كمحاورٍ ينقل التجربة للناس، قد يحاول أن يفتح باباً للتساؤل، وقد يقول رأيه، لكن دون أن يجعله نهائياً، وهذا ما لم يحدث، بل جلس هذا المذيع على كرسي الإفتاء والوعظ، ودون معرفة كافية بالتفاصيل، وعبر دقائق قليلة من الحديث المقتضب أصلاً من شخصٍ كان جليّاً أنه غير قادرٍ على قول ما في نفسه، راح هذا المذيع يفتي بأن الزواج باطل، وأن علاقته بهذه الفتاة لعامين كانت زنا وجريمة، وبدلاً من أن يقترح على هذا الشاب المريض والمعلول، أن يعود للمختصين في العلاج النفسي والمختصين في مسائل الفقه، لحل مشكلته، قام بافتراسه على سمع الناس، وبينما الشاب يبكي راح يستعرض تقواه وكلاماً وعظياً مكرورا وعقيما، على أشلاء هذا الإنسان الممزق، الذي سكت أخيراً، ولم يعد يُسمع سوى نشيجه.

في شأن ملايين الحكايا التي تدور بين الناس كهذه القصة، ولا يجرؤون على الإفصاح عنها، هلعاً من مثل هذا التأنيب الوعظي الفج، في شأن الاندفاع والتعلّق والكسر؛ لو كنت أنت ذاتك قد اعتديت على المعنى، فإنك تخطئ حين تظن أن الأيام والهدايا، أو حتى الرسائل والأزهار –مثلاً– ستنذر نفسها للحفاظ عليكما إلى الأبد، تُخطئ لو ظننت أن الغزل القديم يمكنه أن يتصدى للغياب والصمت والخيبة. كل هذه الأشياء لا تَفهم، حتى الكلمات لا تَفهم، المعنى هو الذي منحها السحر، وحال كنت اعتديت على هذا السحر فلن يكون أيٌ مما حدث بينكما سوى شيءٍ يتفسّخ في القصة، حتى تفارقه روحه، وكأي جثمان مزر ومقزز وتافه، سيضطر أحدكما أو كلاكما أن يُلقيه ببرود وجفاف في مَكبّه الأخير.

من البدء.. لا تسمح لشيء في أرضٍ أو سماء، مهما كان إغواؤه، أن يجعلك هشاً، وغير قادر على تخطيه، في النهاية ستجلس على دكة باب أو حافة سرير، كتفاك كصدغيك، مهدلان ومثقلان بالإذلال والندم والعجز، عليك أن تفهم أن صِلتك بآخر ليست فيلماً للسهرة، فخُض الحياة كلها، يمكنك أن تتعلق بالأشياء، بالقدر الذي لا يستعبدك، وإذا ما شعرت بشيء عذب ولعين يتسلل إلى جوهر روحك، فإما أن تبقى ما عشت، حارساً للمعنى والسحر، كي لا يذبل وتذبل معه، وإما أن تعتبره تهديداً.. وعلى الفور ضع قلبك تحت حفاك، ادهسه بلا رأفة، وتصرّف إزاء نفسك – ليس الآخر- مثل فيلٍ غاضب. تألم قليلاً وأنت تغادر، لا بأس، هذا أفضل من أن تبتلعك الجحيم، حينها ستتألم طويلاً.. طويلاً إلى ما لا نهاية.