صح عن سيد البشر ـ صلى الله عليه وسلم ـ قوله: "إن ـ أخوف ـ ما أتخوف عليكم؛ رجل قرأ القرآن، حتى إذا رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عليه، وكان رِدْئًا للإسلام؛ غيَّره إلى ما شاء الله، فانسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك، قال قلت: يا نبي الله أيهما أولى بالشرك؛ المرمي أم الرامي؟، قال بل الرامي".. حديث رواه الإمام ابن حبان في صحيحه، والحافظ أبو يعلى في مسنده؛ وغيرهما عن سيدنا حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنهما ـ.. قبل الدخول في فقه الحديث؛ لا بأس من تأكيد ذكر أن سيدنا محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يترك شيئا من الشر إلا وقد حذرنا منه، كما أنه لم يدع شيئا من الخير إلا وقد رغبنا فيه، وأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ خاف علينا من مجموعة من المخاوف والمتاهات؛ بسبب ما انطوت عليه من (غش وخداع ومواربة).. الحديث الذي صدرت به المقالة من أهم ما استرعى انتباهي فيه أن منشأ الخوف من أحداثه: من قرأ القرآن، بل وكانوا ردءاً للإسلام كما ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فلما علا ذكرهم، وذاقوا الجاه والمكانة؛ جذبتهم الدنيا، فانسلخوا عن الدين، وصاروا عبئاً عليه، والأدهى والأمر أن حالهم قد زاد، حتى وصل بهم الأمر إلى رمي غيرهم من الحكام والمحكومين بالشرك، وقادهم فكرهم التكفيري هذا إلى حمل السيف، والمسدسات، والقنابل، والرشاشات، والصواريخ، وتفخيخ السيارات للتقتيل دون هوادة.
المتتبع والدارس للتاريخ يعرف أن الحركات "المتأسلمة" ـ في كل وقت ـ ليست إلا امتدادا لمن اشتط من أهل العصور الأولى، كما أنه ليس لها من غرض إلا تحويل الناس إلى اعتناق منهجهم الفكري في التعسير والتنفير، وحمل غيرهم على الانسياق خلفهم بكل عنف وقسوة، وفرض فكرهم المتسم بالتشدد والتطرف على الناس، والولاء والبراء من الحكومات المعاصرة، وقلب الأنظمة الحاكمة، والاستيلاء على الحكم، لأن الحكومات ـ غيرهم ـ كافرة ومارقة.. الحديث السابق الذكر قد يشرح بوضوح قول المولى ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ..}، وهؤلاء حتما قد انكشف أمرهم، ومن لم ينكشف أمره اليوم سينكشف ستره غدا.. الحديث الشريف السابق لا شك أنه ليس المقصود به "رجل ـ معين ـ قرأ القرآن.."، بل هو عن كل من انطبقت عليهم صفات هذا الرجل، الذي كان من شأنه قراءة القرآن، وحفظه، وضبطه، وكان ناصراً للدين، ومدافعا عنه، ولكنه حرف معاني الكتاب، ونزل الآيات على غير المحامل الصحيحة، فقال ـ مثلا ـ لقد أمرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالجهاد، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ..} فأخذ ينادي بالجهاد، دون أن يخوله ولي أمر المسلمين، ودون فقه إلى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قيد الأمر بقوله في الحديث المتفق على صحته: "إنما الإمام جنة يُقَاتَلُ من ورائه، ويتقى به".. فقه كهذا لم ينبع إلا عن الجهل، والطلب على أيدي جهلاء، وقد يكون نابعا عن (الاكتفاء) بالدراسة المفردة دون الاستعانة بموجه عالم، وصالح في باطنه قبل مظهره، وقديما قالوا: "من كان شيخه كتابه؛ كان خطؤه أكثر من صوابه".