على مدى عقود ومنذ "ثورة شريط الكاسيت" والخطاب الوعظي التقليدي التلقيني المباشر هو السائد في الحث على أي "فضيلة" أو التحذير من أي "رذيلة" ـ حسب وجهة نظره ـ ولو كانت هذه "الرذيلة" فكرية تحتاج إلى أسلوب المحاججة والإقناع العقلي قبل اللجوء إلى النصوص النقلية التي قد تكون في ذهن حامل هذه "الرذيلة" مجرد أوهام وأساطير، فالعقل لا يواجه مواجهة حقيقية إلا بالعقل. ومع ذلك ما زلنا في كل حدث صغير أو كبير يهم عامة الناس، نرى الأسلوب القديم جدا ذاته في المعالجة، حيث تتلخص تلك المعالجة في ما يسمى "حملات إعلامية" لم تتغير لغتها وأسلوبها منذ قرون، فالسائد هو التحذير والتهويل باللغة الوعظية التقليدية المباشرة نفسها، التي تعتمد على جمل مثل: "لا تفعل كذا" و"افعل كذا"، والمشكلة الأسوأ أن الوجوه والأسماء التي تتصدر المشهد الإعلامي والمنابر العامة مثل المساجد أو التجمعات العامة، هي نفسها ذات الوجوه منذ سنوات، ولذلك من الطبيعي أن يكون خطابها واحدا ومكررا في كل حادثة أو قضية عامة.
يجب أن يدرك الجميع خصوصا القائمين على وسائل التوجيه والإرشاد الديني، كذلك وسائل الإعلام المختلفة، أن الزمن تغير كثيرا، وأن مبدأ التلقين باتجاه واحد وبصيغ "الأمر" أو "النهي" لم يعد مجديا في تغيير الأفكار والوصول إلى نقطة تلاقٍ وإقناع للكثير من الأجيال الجديدة، التي تعبأت بقيم الحوار والمنطق والدليل المادي في بعض الأحيان.
ولأن أبرز مشكلة يواجهها مجتمعنا هي مشكلة التطرف الفكري الذي قد يتحول إلى "إرهاب مادي"، فإن المعالجات التقليدية له لم تعد ذات تأثير كبير بل إنها قد تتحول إلى نتائج عكسية. ولعلي أشير هنا إلى نقطة أزعم أنها قد تكون مفيدة في تغيير أفكار بعض مما تملكتهم أفكار متطرفة، وهي التوسع في نشر وتوزيع الكتب التي تتحدث عن تجارب ومذكرات بعض من انتموا لجماعات إرهابية مثل جماعة "جهيمان"، أو "ابن لادن"، وغيرهم ثم تابوا وتراجعوا، فهناك كتب ومذكرات مهمة جدا، بعضها طبع ونشر، وفيها الكثير من الإقناع العقلي: "من خلال وقائع مادية"، فلو قرأها بعض الشباب الذين تطرفوا لربما ساعدت كثيرا في تغيير أفكارهم.
المؤسف جدا أن بعض هذه الكتب لم يفسح رسميا حتى الآن بل يمكن أن نقول إنها قد تكون على قوائم المنع، أو إن تداولها على نطاق ضيق جدا، مثل معارض الكتب الدولية، ولكنك لا تجدها في المكتبات العامة، أو في المؤسسات التعليمية والثقافية التي تدعي محاربة الفكر المتطرف. وكان الأجدى إن كنا نريد مقارعة الفكر بالفكر، أن توزع مثل هذه الكتب مجانا وفي كل مكان، بل ما المانع أن ترسل مثل تلك الكتب مجانا إلى منزل من نشك أن لديه الاستعداد لتبني أفكار متشددة.
[email protected]