أعمل هذه الأيام على استكشاف بعض الأماكن الأثرية في جيزان، بصحبة عالم الآثار الدكتور فيصل الطميحي، متنقلين من مكان لآخر ملاحقين الرموز والنقوش التي تركها البشر في أماكن مختلفة هنا وهناك، ليوصلوا إلينا من خلالها ماذا كان لديهم، أو ماذا كانوا يعملون، أو صورة عن أوضاعهم يمكن قراءتها اليوم وغداً...
فحين بدأ الإنسان محاولاته الفضولية الأولى للتعرف على الأشياء وتلمس واستكشاف ماهيتها، لم يكن يخطط لما بعدها من تحولات، ولم يدر بخلده أن الشيء سيجر أشياء أخرى كثيرة، وأن القطرة ستشكل الطوفان المخبأ خلف استفهاماته الطبيعية تلك، ومن ذلك طريقته في تلمس ما ينير له الطريق ويفتح له الآفاق المعرفية، ليخرج من عزلته، ويحطم أغلال الجهل والظلام التي تحاصره. لقد سعى الإنسان دون كلل لفعل ذلك، وتغيير واقعه رويداً رويداً، ثم لينطلق بسرعة الصاروخ في القرون الأخيرة من تاريخه، محققاً ـ خاصة في القرنين الأخيرين ـ قفزات نوعية هائلة، سبقت بها عصر اكتشاف "العجلة" التي يجرها الحصان، ليصل من خلال تلمسه ذاك إلى حالات بعيدة من الوعي والإدراك والتكوين الذهني والحصيلة المعرفية، وهي ما يشكل جل مخزونه الثقافي المختلف.
اليوم تكاد تلك المعرفة بعلومها واختلافاتها وما أنتجته من تنوع هائل، أن تنسف حالة التواصل الإنساني العميق على الرغم من أنها جعلت كل شيء حول الإنسان أسهل وأيسر، فعندما تراقب الأشياء من حولك تدرك أننا كبشر نتحول بشكل تلقائي يشبه حلم النائم، إلى مجرد علامة جديدة ضمن قاموس علامات "السيميولوجيا" أو "السيميائية"، وهو العلم الذي يدرس العلامات والإشارات ومدلولاتها، ويعرفها "جورج مونان" على أنها "العلم العام الذي يدرس كل أنساق العلامات أو (الرموز) التي بفضلها يتحقق التواصل بين الناس"، وهي التي يضعها كثير من المنخرطين في دراستها، في خانة العلم الدلالي الرئيسي المؤسس لكل المكتشفات والعلوم الأخرى، والطريق الأول لكل نتيجة اكتشاف تالية، ولقد أدى استخدام العلامات والرموز إلى توسيع دائرة المعرفة ملايين المرات في الوعي والثقافة الإنسانية، ونقلت الأفكار بطرق مختلفة ولغات مختلفة، وقلبت موازينه الاجتماعية رأساً على عقب، وبتنا اليوم نخاطب بعضنا البعض دون الحاجة إلى فتح أفواهنا لإخراج الحروف الصوتية المسموعة، على الرغم من أنها جزء مهم من كلية رئيسية من على "السيميوطيقا" أو "السيميولوجيا"، ويشمل هذا العلم الكثير من الدوال "كعلامات الحيوانات، علامات الشم، الاتصال بواسطة اللمس، الاتصال البصري، أنماط الأصوات والتنغيم، والتشخيص الطبي حركات وأوضاع الجسد، الموسيقى، اللّغات الصورية، اللغات المكتوبة، الأبجديات المجهولة، قواعد الأدب، أنماط الأزياء"، واكتفينا بإيصال وتبادل معلوماتنا عن طريق الإشارات، وأصبحنا نتحرك على أساسها، فمن إشارة المرور الواقفة في الشارع لمخاطبتنا عن متى نقف ونتحرك في حالات المرور وكيف ولماذا؟ إلى علامة الوجه الضاحك أو الغاضب أو الحزين، أو كتابة الحروف بشكل معين كالتعبير عن الضحك "هههههههه" أو "خخخخخ" التي نستخدمها في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة وبرامج المحادثة كالواتس أب، صرنا أشبه بنماذج بشرية مقنعة، أو "روبوتات" خالية من الأحاسيس، إذ لم يعد التقارب الإنساني الاجتماعي حميمياً بالقدر نفسه الذي هو عليه اليوم، وأصبح الحديث عن الأشياء والعلاقات بسيطاً وأقل حميمية من ذي قبل.
العلامات والدلالات لغة عظيمة وعبقرية حتماً، وصحيح أنها تكسر حواجز اللغة الصوتية والحرفية واللفظية، وجعلت الاستخدام العام للأشياء عالمياً، ووحدت روح الخطاب من خلال العلامات الجديدة والقديمة، إلا أنها قد تعيد تاريخ الإنسان إلى فترات العزلة والقطيعة، لتؤسس لتحجر المشاعر الإنسانية على نحو ما، وهو ما أخشاه على المجتمعات البشرية، لندخل إلى فترات عصيبة ربما في المستقبل، لأنه من الواضح أننا أمام تحول تاريخي كبير على هذا المستوى، فكل شيء من حولنا تقريباً صار يخاطبنا بالعلامات والرموز والإشارات.