"بالأمس اشتريت أرضاً بعشرين ألف دولار "لنديني"؛ في ضاحية راقية من ضواحي "سكند لايف Second Life", بل إنني أخطط لاستثمار هذه الأرض البكر ببناء مجمع تجاري مختلف! ولدي الكثير من الخطط والأفكار", هكذا استمر صديقي –المهووس بالتقنية- بالحديث عن تفاصيل حياته اليومية هناك. لم أصب بالدهشة أو الاستغراب, لأنه لم يكن يتكلم عن عالم رقمي غير محسوس, بل عن حقيقة افتراضية في طريقها القريب إلى أن تتحول إلى واقع ملموس!

"الحياة الثانية" عالم افتراضي على شبكة الإنترنت يحاكي واقع حياتنا اليومية, ولكن عبر شاشة الحاسب الآلي, والتي عبر أبعادها الثلاثة تستطيع أن تبني عالماً خاصاً بك أنت, تستطيع أن تصمّم شخصيتك الافتراضية, أو ما يطلق عليه بلغتهم: "Avatar", بما تتمنى أنت, وباللون والطول والشعر الذي تحب! وبها تعيش وتتفاعل مع محيطك على أرض الحياة الثانية أو "The Land", وكأنما تعيش على أرضٍ حقيقية, فيها تبني وتهدم, وبها تبيع وتشتري, بل تتزوج وتنجب, وقد تطلّق شريكة حياتك كذلك! هناك تقابل من تشاء, وتخالط من ترغب, وقت ما تشاء, دون أي رقابة أو حدود, هناك تنطلق بمشروعك الفني أو التجاري دون وثائق أو شروط, هناك تعيش حياةً كما تريد أنت لا كما يفرض عليك واقعك أو مجتمعك, وهذا ببساطة سر إقبال هذا الجمهور المتضاعف من المسجلين حول العالم, والذي تؤكد إحصاءات مؤسسي "الحياة الثانية" أن عدد مدمينها الفاعلين حالياً قد تجاوز ستمئة ألف شخص, من بين واحدٍ وعشرين مليون حساب أنشئ خلال السنوات الماضية.

هذا التوسع في "الحياة الثانية" وتطورها إلى محاكاةٍ مثيرة لواقع الحياة, جعلها هدفاً للكثير من المؤسسات المتنوعة ذات الأهداف المختلفة, فالشركات التجاربة الكبرى لها تواجد تسويقي متواصل, وحتى الجامعات والمعاهد العلمية وبعض المؤسسات الحكومية, الأمر الذي حدا بمملكة السويد أن افتتحت سفارة لها في "الحياة الثانية"! دون إغفال تحقيق البعض ثروات مفاجئة من وراء تقديم خدمات لمشتركيها, كما هو الحال مع مصممة الأزياء "فيرونيكا براون" التي كسبت عشرات آلاف الدولارات من تصميم أزياء "أفتار" شخوص الحياة. خصوصاً مع توسع النتائج الاقتصادية لهذه المنظومة التي حققت عام 2013 نسبة نمو 11% في الناتج السنوي لها, لكن المعلومة الصادمة هنا: هي أن قيمة التعاملات المالية في "الحياة الثانية" خلال العشر سنوات الماضية قد تجاوز 3 مليارات دولار أميركي! بمعدل 1.2 مليون عملية يومياً, من بيع وشراء مواد افتراضية أو حتى مواد وخدمات من الواقع الحقيقي بواسطة متاجر افتراضية في "الحياة الثانية", ولك أن تتصور أن اقتصادنا السعودي غائب تماماً عن كل هذا!

المثير في الأمر أن مؤسسها الأميركي "فيلب روزدال" كان يهدف في البداية إلى تأسيس شركة مختصة بملحقات أجهزة الحاسب الآلي عام 1999 التي تستخدم لتجسيد العوالم الافتراضية, لكن يبدو أن الفكرة لم تنجح بالشكل المأمول؛ فتحول الأمر إلى ابتكار وتطوير تطبيق "عالم ليندين Linden World", تلكم المنصة الإلكترونية التي تتيح للمستخدمين فرصة التفاعل مع مستخدمين آخرين بواسطة شخصيات افتراضية, وحياة كما لو كانت واقعاً يلمس, وهكذا انطلقت تلكم "الحياة الثانية", وبدأت بالتوسع تدريجياً, وجذب الجمهور وتقديم أسلوب ترفيهي مختلف عما يقدم عبر شبكة الإنترنت, كما في ألعاب الفيديو التفاعلية على سبيل المثال.

بالطبع هذا الإدمان يعيد طرح السؤال المتكرر عن مدى قدرة مثل هذه المنظومات الافتراضية على الهروب بنا من واقعنا الحالي إلى عالمٍ افتراضي جميل وبراق, خصوصاً أن الشركة ومؤسسها يؤكدان أن "الحياة الثانية" ليست لعبة تنافس أو فخر كما هي الحال في الألعاب الآخرى, لأنه لا مجال فيها للمسابقة أو للحروب, إنما هي محاكاة رقمية للواقع اليومي, لذا فإن السؤال ليس عن إمكانية إدمان الكثيرين عليها, فهذا واقعٌ من الضروري أن تتعايش معه, لكن المعضلة الحقيقة هنا هي ما يراه الخبراء من تحوّل إدمان إضاعة الوقت في الممارسات العادية؛ إلى قضائه في الساحات الخلفية للحياة الثانية, التي تحوّلت إلى قنوات موازية -غير مراقبة- لنشر الرذيلة والممارسات غير السويّة, سواء على مستوى العلاقات غير الشرعية, أو حتى عرض الصور أو مقاطع الفيديو المحظورة دولياً, مما حدا بأحد المشايخ إلى إصدار فتوى بتحريم التسجيل والمشاركة فيها, بيد أن الأمر لم يقف عد حد العروض الفضائحية على جزر "الحياة الثانية" أو تقديم الاستشارات الضارة؛ إذ أشارت إحدى التحقيقات الصحفية مؤخراً إلى تحولها إلى ساحة للترويج لأفكار الجماعات الإرهابية المتطرفة, التي تحاول الاستفادة من جو الحرية المطلقة هناك, ومن الاستعداد النفسي لمدمني "الحياة الثانية" للاستماع, ثم التأثر بتوجهات مثل هذه الجماعات, وللأسف الانضمام إليها في نهاية الأمر.

وجود "الحياة الثانية" وتزايد انتشارها وتوالد الأفكار المشابهة لها؛ يجعل من الضرورة أن نركز التفكير في التعرف على جمهورها واستشراف مستقبلها, وأن نتوقف عن النظر إليها بشيء من الفوقية وعدم الاهتمام, وأن يكون لنا فيها موطئ قدمٍ معتبر, بالإضافة إلى أن نكون لاعبين أساسيين لا مجرد ضيوف عابرين, ويزداد الأمر أهميةً: توسعها المتواصل, وتداخلها مع وسائط الاتصال الاجتماعي, والتي وإن كانت هي "الحياة الثانية" اليوم؛ فهي بلا شك الحياة الأولى في قادم الأيام.