"سأظل أحلم بمجتمع مغربي قارئ لا يتهمني بالأمية"، شدتني هذه العبارة للشاعر المغربي جمال أماش يشتكي فيها من عزلة الكتاب في ظل المتغير التقني الجديد وسيطرته النافذة على الحراك الإنساني في الحياة الاجتماعية والثقافية، والواقع أن هذه العزلة التي اشتكى منها أماش تحضر بقوة، فلم يعد الكتاب- وهذا ليس صحيحا- المصدر الأول للمعرفة بعد أن هيمن حتى على الباحثين شغف الغوص في لجج الشبكة المعلوماتية كأقصر وأيسر الطرق للوصول إلى المعلومة وتتبع قوتها من ضعفها، على الرغم من وجودها في مكتبات المؤسسات التعليمية والثقافية منزوية بين دفتي كتاب بارد على رف قصيّ لم تمسه يد مذ سنوات خلت.

قد تكون التقنية الحديثة وفرت الجهد والوقت، لولا أنها أفقدت القارئ المعنى الجميل والمهيب في آن حين يكون في حضرة كتاب مرجعي قديم، معملا أدواته القرائية والبحثية ومطالعاته الموسعة فيقارن ويحلل ويترصد اشتغال العلماء ونتاجهم ومداولاتهم الفكرية واختلافهم المتسامي عن حظوظ النفس والمنصب على الشأن العلمي فحسب، وإني لأعلم أن كثيرا من القراء الكرام قد مروا بتجارب عديدة في اقتناء الكتب "الورقية" ليضعوها على الرف البعيد ثم يطويها النسيان دون أن تتناولها يد إلا أن تنقلها من مكان إلى آخر على سبيل التنظيف والترتيب لا غير، والحقيقة أن عزلة الكتاب المفروضة عليه هي عزلة للقراءة الحقة، وانزواء عن تقنياتها وإن رأيت الناس يدخلون إلى معارض الكتب أفواجا فإنهم سرعان ما ينفضون عنها ليلقوا بما اقتنوه على الرفوف الباردة المغبرّة. هذه دعوة إلى العودة إلى مكتباتنا وتفقد ما تحمله الرفوف، وإعادة الدفء إليها بالتعهد والقراءة، ونفض غبار العزلة عنها، فالكتب ليست أكواما من الورق إنها عقول تعيش على الأرفف كما هي العبارة الشهيرة لـ"غيلبر تهايت"، وعلينا أن نقدم ما يليق بها من احترام وتقدير بالقراءة والاطلاع وتدريب أهلينا وأبنائنا وطلابنا على التعامل معها وجعلها نصب العين ومرمى الهدف في الاكتساب المعرفي الرصين، والعناية بمكتبات المنازل وإعادة الحياة والهيبة لها وتحويلها من مجرد أنماط جمالية جامدة إلى حياة مفعمة "فالكتب ليست أثاثا للمنزل، وليس أجمل منها زينة له"، وإنه لحقيق بمحاضن التربية أن تعمل على توجيه اهتمام الطلاب إلى المكتبات المدرسية والعامة منذ سنيهم الأولى، فليس صحيحا ولا صادقا القول بأن أجهزتهم الذكية توفر ذلك، لأنهم في الأصل لا يبحثون إلا عن المتعة والغرابة فيما يكتب ويرى وأكاد أقول ولا يفيد.