أكد بعض رجال الدين والدعاة، تحريم الاكتتاب في أسهم أحد البنوك المحلية، والتي سوف تطرح قريبا، وذلك لوجود بعض الإشكالات الشرعية تتمثل في أن نشاط وعمليات البنك تشتمل على نسبة كبيرة من القروض والتمويلات المحرمة وسندات دين بفوائد ربوية، وعلى هذا الأساس يجب على البنك معالجة هذه الإشكالات قبل طرح أسهمه للاكتتاب.
وقضية "تحريم الاكتتاب في الأسهم" ليست بالجديدة في الحقيقة، فقد سبق وأن تم تحريم الاكتتاب في شركة الاتصالات في الماضي، وذلك بسبب وجود بعض المحاذير الشرعية حسب رأي بعض الفقهاء، من أهمها: إيداع أموالها في البنوك الربوية، والحصول على قروض طويلة وقصيرة الأجل مقابل فوائد بنكية محرمة شرعا، والاكتتاب فيها أعظم جرماً من تعاطي الخمر والبغاء لأنها تتعامل بالربا!
وعندما ثبت للناس أن جميع الشركات والمؤسسات سواء على المستوى المحلي أو الدولي، تقوم بتمويل عملياتها وأنشطتها التجارية عن طريق القروض البنكية، وأن ذلك يعد ضرورة اقتصادية مع وجود عائد جيد نسبياً لاستثمار مدخراتها، وبالتالي فإن مسألة تحريم الاكتتاب في هذه الشركات يعني عدم الاكتتاب مطلقاً، لذا وجد بعض رجال الدين مخرجاً لذلك بالقول بجواز المساهمة مع إخراج النسبة المحرمة من الأرباح!
ومع ذلك بدأ كثير من الناس لا يلتفت إلى مسألة تعامل الشركات والمؤسسات مع الفوائد البنكية، بالرغم من ظهور وبروز فتاوى تحلل وتحرم الاكتتاب في الأسهم المطروحة في السوق المالية في فترة زمنية معينة، ولكن تبقى مسألة الاكتتاب في أسهم البنوك مسألة دينية، فالبنوك تعد في الوعي المجتمعي أصل الربا المحرّم شرعاً في القرآن الكريم والسنة، ولكن بما أن البنوك قد تستطيع التخلص من هذه الآفة فلمَ لا يتم الاكتتاب في أسهمها؟
ولكن الذي لا يدركه العديد من أفراد المجتمع أنه لا يمكن إقامة اقتصاد دون أن يعمل على استخدام أسعار الفائدة، فهذه الأداة تعد الأكثر أهمية للتحكم في الإمدادات المالية أو حجم النقد ضمن نظام اقتصادي معين، فعلى سبيل المثال عندما يسود اتجاه تضخمي، تتدخل البنوك المركزية لتخفيض المعروض من النقود بزيادة أسعار الفائدة بهدف منع حدوث تدهور في القوة الشرائية للمال، أو تخفيض سعر الفائدة عند استقرار القوة الشرائية.
فالفائدة تستخدم كتكلفة لاستخدام المال خلال فترة زمنية محددة، وتسعر بنسبة مئوية من قيمته، وفي العصر الحديث لا يمكن تخيل أي اقتصاد يعمل دون الفائدة ولا يمكن تصور دولة تعمل من دون وجود البنوك، والناس تدرك هذه الضرورة ولكن ما زالت تشك في الأخلاقيات المالية للبنوك.
أعلم أن نظرية الفائدة والمصطلحات الاقتصادية الأخرى مثل الإنفاق والاستثمار والتمويل والقروض تبقى غامضة لدى الناس في المجتمع حتى في أبسط مبادئها وأبجدياتها، والمغروس في عقول الأفراد هو تحريم هذه الفائدة التي تعد الربا المحرّم في نظرهم، مما ترتب على ذلك تدني مساهمة المواطنين في التنمية الاقتصادية، ووقوعهم ضحية لاستثمارات مجهولة أو وهمية وغير مصرحة أو غير مجدية اقتصادياً.
صحيح أن جميع الأديان السماوية تحرّم الربا، وقد ورد في القرآن الكريم عن الربا قول الله - عزّ وجل -: (ياأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون)، وقد حدد فقهاء المسلمين نوعين من الربا: الأول ربا النسيئة ويعني المدفوعات المؤجلة التي تزيد على رأس المال الذي تم إقراضه، والثاني هو ربا الفضل والذي يعني تفضيل سلعة من النوع نفسه، لكنها أفضل في الجودة.
والصورة الذهنية السائدة للربا عند الفرد المسلم تتمثل في إقراض شخص مبلغاً من المال، على أن يتم سداد المبلغ بزيادة مشروطة، وبالتعبير الشعبي (العشرة بسبعة عشر) أي إذا كان مبلغ القرض 10 آلاف فيتم سداده للدائن بمبلغ 17 ألف ريال وهذه الصورة البسيطة للربا هي المطبقة على البنوك.
أما الحكمة من تحريم الربا، فهو غير واضح، وما ذكر في كتب بعض الفقهاء ما هو إلا نظرة تقديرية للآثار المترتبة على التعامل بالربا، كما أن الفقهاء اختلفوا في صوره وأشكاله، ولهذا لا ينظر الكثير من الناس إلى الربا من حيث محتواه الاجتماعي والاقتصادي، حتى رجال الدين أنفسهم. وعندما أفتى أحد رجال الدين بجواز التعامل مع البنوك وأخذ القروض منها، وأن هذا الأمر لا يدخل في باب الربا، لقي هذا الرأي مقاومة شديدة بسبب الأحكام المسبقة والتركيز على الصورة النمطية والشكلية للربا، وبالتالي لا يهم أن يكون من الناحية العملية عملاً ضارا أو نافعا للناس.
لقد حرّم الله - عزّ وجل - الربا حمايةً للفقراء ومنع الظلم الاجتماعي وأكل أموال الناس بالباطل، ولا يقتصر الربا على تعريف جامد، لكنه يتحدد بمدى الضرر الذي يجلبه على حياة الناس العاديين، وهذا الضرر لن يتحدد بمجرد القول النظري وإنما من خلال الدراسات والأبحاث الاقتصادية الحديثة، التي تحدد ما إذا كانت أسعار الفائدة المفروضة بالقوانين عادلة أو مفرطة، يقول كالفن: "الربا يعد إثماً إذا آذى جارك فقط".
قد يقول قائل: "يجب أن يكون هناك اقتصاد إسلامي يستند إلى إلغاء الفوائد البنكية وتطبيق الزكاة، الذي سينجح في استئصال الفقر ومنع الظلم ونشر الازدهار"، وأقول: حتى المنادين بالاقتصاد الإسلامي يستخدمون التحليلات الاقتصادية الغربية الحديثة، من خلال التركيب الانتقائي للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وبالتالي فإن هذه النظرية ما هي إلا مجرّد إيديولوجيا جاءت كردة فعل فقط على الوضع الاقتصادي المتخلف للمجتمعات الإسلامية.
لقد عجز بعض فقهاء اليوم عن مواكبة التطورات الاقتصادية الحديثة، لذا اكتفوا بمسألة الحلال والحرام وتركيب الصور القديمة للربا على هذه التطورات، فمتى تكون الآراء الشرعية حول الأمور الاقتصادية تحت مظلة مؤسسة النقد والمعهد المصرفي، بحيث يتم تفعيل مساهمة المواطنين في التنمية الاقتصادية؟