القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية لا تصنع وحدها القوة العظمى، فأن تكون هذه الدولة أو تلك قوة عظمى فتلك مسؤولية أكثر منها ميزة، لأن القوة تتطلب في الواقع عمقا أخلاقيا يتعامل بموضوعية مع تعقيدات الملفات والقضايا الدولية، ودون ذلك الغطاء تصبح متهورة وقابلة لأن ترتكب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية.
خلال الحرب الباردة تمتعت الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي بشروط القوى العظمى، ولعل قوة الردع لدى كل منهما اضطرتهما للتصرف أخلاقيا وبحذر في تدخلاتهما الدولية، وذلك يشوش على الرؤية الخاصة بكونهما قوتين مسؤولتين، ولكن حين انهار الاتحاد السوفيتي انفردت الولايات المتحدة بلقب القوة العظمى دون منازع حقيقي، مع نمو مقدر في قوة روسيا والصين.
السلوك السياسي للولايات المتحدة خلال الفترة التالية للحرب الباردة وقبلها لم يكن موضوعيا في السياق النزيه لأهدافها وأغراضها وتحركاتها العسكرية، في وقت كان بإمكانها، ولا تزال، أن تتحرك بنزاهة بعيدا عن المزايدات والخروقات على الصعيد الإنساني، لأنها مسؤولة عن كثير من الملفات والقضايا الدولية ولها دور فيها، حيث تمتعت بحق التدخل في كل نشاط عالمي، سواء للحفاظ على قوتها ومصالحها أو بغرض إبراز الهيمنة وإضعاف قوى أخرى قابلة لتهديد نفوذها السياسي والاقتصادي.
حين تصل القوة العظمى إلى أوج قوتها تصبح أكثر شراسة وتعقيدا في تقدير مصالحها وتظهر بداخلها اتجاهات متضاربة نسبيا في توجيه دفة سياساتها، وهنا تبرز أخطاؤها التي تصبح بمثابة "غلطة الشاطر بعشرة" وهي أخطاء مكلفة وباهظة الثمن تنتج الكثير من الضحايا، وبالتالي الكثير من الأعداء الذين لا يعجبهم النموذج الأميركي، وقد يكون بعضهم على حق وآخرون مفرطون في الاستعداء بسبب تداعيات التحرك الأميركي الضاغط على الأرض.
حينما نغوص في أحشاء التاريخ ونقف عند حقائق مثل أن الولايات المتحدة قامت بنحو 26 تدخلا مسلحا منذ العام 1989 في نصف الكرة الغربي وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط، أي بمعدل كل أربع سنوات ونصف منذ ذلك التاريخ، وإجمالا انخرطت في قتال في مكان ما في العالم في 52 سنة من مجموع 116 سنة الماضية أي 45% من الوقت، فإننا نصل إلى استخلاص أن الكثير من المشكلات تسببت فيها السياسة الأميركية التي تخطئ كغيرها برغم ما يتوفر لها من مستشارين ومختصين وخبراء وتقنيات عالية التطور لتوفير المعلومات التي تبنى عليها القرارات.
وما يحدث في مجلس الأمن من تعارض بين القوة العظمى والقوى النامية الأخرى وعبث "الفيتو" يضعنا أمام معادلة دولية خانقة لا يمكن أن نحسن من خلالها الظن بصدق توجهات ونيات تلك القوى، فالأمر في مجمله ترتيب مصالح يمكن أن يضحّي بمبادئ إنسانية تم إقرارها في الأمم المتحدة وجعل مجلس الأمن الحارس المؤتمن عليها، ولكن المجلس يبدو عاجزا عن المضي بالمسيرة الإنسانية نحو غاياتها وتحقيق عالم آمن خال من الصراعات، لأن التعامل مع صراعات الدول يتم بحسب مصالح القوى المسيطرة في المجلس، والحالة السورية تضع الجميع أمام تلك المعادلة غير المنصفة التي يتفرج فيها العالم على أطفال ونساء وشيوخ يموتون بلا رحمة بسبب التضاد السياسي بين قوى المجلس.
ذلك يستدعي بالضرورة حالات أخرى مات فيها الكثيرون وأريقت دماؤهم ولم يتحرك المجلس، ولدينا شواهد عديدة في حالة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وبالتالي فإن القوة العسكرية تثبت عدم جدواها في تحقيق أمن العالم وحقوق البشرية في التعايش بل يتضرر العالم من نمو قوى على استعداد للتضحية بالملايين من أجل الحفاظ على مكتسباتها ومصالحها، سياسية كانت أو اقتصادية أو لمجرد الاستعراض وإرهاب بقية الدول، وذلك كفيل بأن يمنحنا عالما غير آمن ولا يتفق مع المبادئ الإنسانية التي شرعتها الأمم المتحدة، وعاما بعد آخر نبعد أكثر عن التعايش السلمي لأن القوى العظمى لم تعد أخلاقية أو مسؤولة بشكل أخلاقي تجاه البشرية.