النفس الإنسانية مجبولة على البحث عن الكمال المطلق، لذا نمت المعارف وتقدمت العلوم، فالبدايات دائماً ضئيلة لا تكاد تذكر، ولكن بدافع حب الكمال يزهر التطور وتثمر الجهود فتتولد قيم سريعة التقدم تبحث في مضامينها عن تقديم أفضل صورة لأي منتج في أبهى حلة وبأيسر الطرق وأجودها.

لذا سعى الإنسان منذ أقدم العصور إلى تحسس احتياجاته من أبسطها إلى أشدها تعقيدا ليس إلهاما أو وحياً، إنما هي أفكار بسيطة ولدتها الحاجة وطورتها العقول الإنسانية بالتجربة والمحاولات المتكررة حتى وصلت إلى أعلى درجات الإجادة. وهذا المسلك من التمحيص والتعديل والتغيير المستمر لا يقف عند حدود معينة، فهو ماضٍ في كل ما تدركه من حولك، فالطفل يمر بكثير من مراحل الاكتشاف والملاحظة المستمرة والكثير الكثير من المحاولات الفاشلة التي تحولت مع الإصرار إلى علامات بارزة في طريق النجاح. ولذلك فإن كل ما تقع عليه عينك وما يجول في ذهنك مادة قابلة لإعمال الفكر وسبر الأعماق والوصول إلى ما هو أفضل وأجمل مما هو قائم الآن، وعندما تسير الممارسة التطويرية على هذا المنوال فحتماً ستُنسج حضارة متماسكة قوية تتقدم بالجميع، ولا تتخلف لتعثر البعض، ولكن في هذا الحيز نجد بعض المفارقات إذ إن هناك من جعل من هذا التقييم والنقد بمثابة القطع المعدنية التي تعترض بين مسننات التقدم وتقع بين دفتيها لتتسبب - إن لم يكن التوقف التام - فهو الإبطاء لتلك المسننات التطورية، فبدل أن يُتممَ الناقص في عمل من سبقه ويزيده تطويرا، تراه يسعى بكل ما أوتي من قدرة تدميرية على اجتثاث أفكار سابقيه والتقليل من جدوى تجاربهم وتغييبها عن الوجود، لأنه ليس لدينا القدرة على استيعاب فكرة أن ما قدم لا يخدم فردًا بعينه ولا يختص به وحده، كما أن فهمنا للممارسة النقدية يدور في إطار ضيق يدور حول اقتناص مواطن الضعف والضغط عليها أكثر لننسى التقويم الهادف وننجرف بتهور شديد للتقريع والتقليل من شأن مبدع العمل. فنصب جام غضبنا النقدي على ذلك العمل ثم نتركه مهلهلاً لا حياة ولا روح فيه ويتحول إلى هيكل فني آيل للسقوط مع أول نسمة محاولة أخرى في نفس المجال وهكذا تطرد العملية.

وما علمنا أننا بذلك نقوم بعمل ممنهج لوأد كل إبداع بكل قسوة تحت سقف النقد، وذلك من خلال طمس المعالم الفكرية السابقة التي قدمت لتبدأ قصة مبدع جديد يكون هدفا آخر للتقريع والتهكم والتنقص.

إن الفهم الحقيقي للنقد يحول العقل الفردي إلى طاقات هائلة من العقول التي تتضافر جهودها لتحقيق التقدم والرقي وتحول أقل الأعمال وأبسطها إلى أجملها وأرقاها. وبهذا النقد الهادف تتحول الممارسات السطحية غير الممنهجة إلى أدوات بناء بدل أن تكون أدوات هدم، وتصبح الرؤية واضحة في خضم التسارع الشديد في شتى مناحي الحياة. فنكسب الوقت ونثمن العقول وننتج ما يفوق الخيال.