نعم، تأخرت كثيرا جدا عن أن أدلي بدلوي إلى حفرة شارع التحلية. تأخرت لسببين: أولهما أن أي دلو وأي حبل لن يعيدا أبا وابنه إلى الحياة، ونحن تعبنا من النفخ في كل ما سبق في كل القرب المثقوبة، فما بالك بمن ينفخ في حفرة مفتوحة. (براطمي) عند النفخ قد لا تغطي مساحة واحد من الألف من فوهة حفرة الموت الكوارثية. ثانيهما أنني تأخرت كي لا أقع في الحفرة وتمهلت كي لا أكتب لغة حمراء وقاسية تأخذ قلمي إلى مصير مجهول. كل كوارثنا وعواقب إهمالنا تنتهي إلى تسجيل القضية ضد مجهول. لهذا أقترح على وزارة الشؤون البلدية وأمانات المناطق وبلدياتها أن تفتح (حفرة) في كل مدينة وقرية وهجرة كي نرمي فيها كل أقلامنا التي تزعج على الدوام أركان هذه الوزارة.

في هذه الحفرة المفتوحة وأين: في أرقى شوارعنا وأكثرها استئثارا بالصرف من الميزانية العامة لم ندفن فقط مجرد جثتين، فهذه حكاية بسيطة تتكفل بها الحناجر والأدعية في خيمة العزاء، في هذه الحفرة -وهو الأهم- تم دفن شهادة دكتوراه طازجة في الهندسة قدمت للتو من أرقى الجامعات الأميركية.

الشهيد المرحوم بإذن الله كان مشغولا آخر عشر سنين من حياته بهندسة المواصفات والمقاييس، ولم يكن يخطر على باله أبدا أبدا أن الذين فتحوا الحفرة ذهبوا لغزوة قصيرة للعشاء على (كبدة حاشي) في طريق مكة القديم. في هذه الحفرة تم دفن عائلة قضت آخر عشر سنين بين الغربة والقاعات والمعامل. الكارثة أن الأب كان يغرد بصوره مع طفله في شوارع مدينته الأميركية. لم يكن يعلم أننا سنحتفل بعودته في حفرة مكشوفة.

كل هؤلاء من ضحايا الكوارث يتحولون مع الزمن إلى مجرد ملف في أرشيف الوزارة الموقرة التي لم يتبق أمامها إلا فتح وكالة (لشؤون المغفور لهم بإذن الله).

ومن قبل حفرة التحلية: هلكت نصف عائلة في نفق الخميس. توفي الغامدي وولده في كوبري الباحة. غرق باص البنات في نفق الرياض. دخلنا خيام العزاء في كل مدينة وقرية وهجرة بسبب مئات حوادث الحفر المفتوحة في كل شوارعنا بلا استثناء. هي ذات الوزارة التي حولت كل مدننا إلى ما يشبه وجه (المجدور) تحت اسم المشاريع وغطاء التنمية. هي ذات الوزارة التي تقول عنها المعلومة المؤكدة أنها لم تحاسب في العام الأخير سوى موظف واحد من بين كل ألف موظف. هي ذات الوزارة التي يقال إنها تستأثر بربع كل المقالات الوطنية مجتمعة، فرمت كل أقلامنا في حفرة مفتوحة،

هي ذات الوزارة التي تصر أن تكون: وزارة المرحومين بإذن الله.