بموجب حكم قضائي حصلت السيدة كاثلين روبرتسون من "أوستن" بتكساس على تعويض مالي قدره 800 ألف دولار أميركي، وذلك بعد أن تعثرت بطفلها الصغير الذي كان يجري بداخل محل تجاري للأثاث المنزلي،كانا يتسوقان به وتسبب بكسر في عظم كاحلها، وبطبيعة الحال فإن محامي السيدة كاثلين استند في دعواه ضد المحل التجاري على نقص إجراءات السلامة، ومن خلال هذه الثغرة تمكن من الحصول على الحكم القضائي بالتعويض بمبلغ مالي كبير. إنني أتساءل لو عززنا ثقافة التعويض المادي، وفرضنا قانون التعويض عن الأضرار هنا في المملكة وبمبالغ كبيرة على أي منشأة يثبت ضدها دعوى الإضرار بأي شخص؛ هل كنا سنرى حوادث السقوط في الآبار ومجاري الصرف الصحي المكشوفة تتكرر بهذا الشكل؟! وهل سنجدنا ما نكاد نفيق من فاجعة -كقضية لمى الروقي- حتى نصدم بفاجعة أخرى وهي وفاة الدكتور علي منشو الذي كان منتشيا بالتخرج من مرحلة الدكتوراه وطفله محمد وبطريقة مشابهة لفاجعتنا في لمى الروقي؟! أم كنا سنرى أن جميع المنشآت الأهلية والحكومية، وقد طبقت كافة قوانين السلامة بل وطبقت كافة معايير جودة السلامة على مبانيها ومرافقها تفاديا لتحمل أي مسؤولية تجاه أي حادث يمكن حدوثه داخل مقراتها؟!

حادثة شارع التحلية شبيهة لحادثة لمى الروقي، أيضا طريقة تبرير الدوائر الحكومية متشابهة، وهي التنصل من المسؤولية ورميها على عاتق الجهة المالكة، سواء لموقع البئر أو الصرف الصحي المكشوف.

ما جعل مثل هذه الحوادث تتكرر هو الآلية التي نتبعها في التعامل مع هذه الإشكالية، فعند وقوع أي حوادث مماثلة فإن الآلية تكون كالتالي: أولاً تقوم الجهات الحكومية بالتدخل لانتشال الضحية وغالباً من يقوم بهذا الدور هو جهاز الدفاع المدني الذي يبذل الكثير من الجهد والتضحيات، ثانياً: يتم نقل الضحية إلى أقرب ثلاجة موتى، ثالثا: تبدأ الجهة الحكومية الموجه لها أصابع الاتهام بالتبرير ومحاولة التنصل من المسؤولية، رابعاً: يتم تشييع الجثمان ومراسم التعازي لأهل الضحية. خامسا: يغلق ملف القضية دون محاسبة لأي شخص وفي أفضل الأحوال تقوم جهة ما بدفع مبلغ الدية المفروضة شرعاً على الجهة المسؤولة. خامسا: يتكرر الأمر مرة أخرى لضحية جديدة، والسبب يعود بكل سهولة لأريحية الآلية ويسرها، التي لا تمثل عائقا أمام أي منشأة ولا عظة أو عبرة لرفع ميزانياتها في مجال السلامة وجودتها، ويتكرر الأمر لأننا نقول حسنا ما أسوأ سيناريو ممكن حدوثه؟ لا شيء.. ضحية، انتشال، تنصل من المسؤولية، تشييع الجثمان ودفنه، وانتهى الأمر.

ولو تساءلنا أين التعويض؟! -وذكري للتعويض هنا من باب ضمان عدم التكرار- وإشعار كافة الأفراد والمؤسسات بالمسؤولية فإن هذه الحوادث لن تتكرر.

وحتماً لا شيء يعوض فقدان عائلة لأحد أفرادها، ولكن كل الحوادث المشابهة لحادثة شارع التحلية تتوافر بها أربعة الشروط الأساسية للتعويض وهي الشرط الأول: وجود فاعل يقوم بفعل الإضرار بالغير، الشرط الثاني: أن الفاعل قام بالإضرار بغير وجه حق، والشرط الثالث: حصول النتيجة وهي وقوع الضرر، والشرط الرابع: ألا تكون هناك وسيلة لإزالة الضرر. إذا انطبقت أربعة الشروط السابقة فإنه من الواجب فرض مبلغ تعويضي على الجهة المسؤولة تدفعها لأهالي الضحايا، والهدف الرئيس لهذا التعويض ليس من أجل رفع الضرر عن أهالي الميت بل إن الضرر هنا لا يمكن إصلاحه؛ ولكن كعقوبة أو غرامة كبيرة تعزز أهمية حرص كافة الأفراد والمؤسسات والجهات الحكومية على العمل لعدم تكرار الأمر، وأنه في حالة تكرار نفس الإشكالية داخل نطاق مسؤولياتهم فإن جزاءهم دفع مبالغ تعويض قاصمة للظهر قد تطيح بأي مسؤول تضطر الجهة التي يعمل لديها دفعها لتكبدها خسائر كبيرة إثر إهماله إجراءات السلامة ووقوع ضحايا لا ذنب لهم.

تنصل أمانة جدة في بيانها الرسمي من المسؤولية تجاه الحادثة لا يعني أنه فعلاً لا يمكن أن يكون ضمن صلاحياتها ومسؤوليتها، بل وفقاً للائحة البلديات المعتمدة من مجلس الوزراء فإن عدم تغطية فتحات الصرف الصحي مخالفة تستوجب العقاب على المنشأة التجارية وهي ضمن صلاحيات العقوبات الممنوحة للبلديات، ووجود أي خلل في هذا المجال يقع ضمن مسؤولياتها المباشرة ويتوجب على ذلك دفعها مبالغ تعويض كبيرة تجعلها تعيد حساباتها من جديد لتكون أكثر مسؤولية تجاه أرواحنا وأرواح أطفالنا التي تبتلعها أفواه شرسة مختبئة في أماكن لا نتوقع وجودها مثل شارع التحلية بجدة.