لم يكن التاريخ صادقا أبدا وهو يغرس في رؤوسنا أنه ليس هناك إلا عدو واحد، هو إسرائيل.. كنّا أطفالا صغارا متطلعين على مقاعد الدراسة مطلع السبعينيات الميلادية، يحشو المعلمون أدمغتنا الطرية بالقلق والخوف من اليهود الذين وصفوهم بالعدو الأوحد، ويبشروننا في حين كل درس أنهم قادمون لا محالة لاستعبادنا.. فتنتابنا موجة من القلق يعبر عنها خوف ظاهر.

معلمنا الفلسطيني يصرخ مهددا: ويلكم إن إسرائيل ستتسع لتبلغ الفرات شرقا والنيل غربا والمدينة المنورة جنوبا.. فيزداد الخوف، لكن لم نخل حينها من رحمة الله حين يدلف إلينا المعلم المصري ليؤكد لنا أن إسرائيل ليست إلا شرذمة حقيرة سنصدها بظهر النعل.. معلنا أن الشجعان العرب اتفقوا على وأدها.. ويا الله.. ننتشي ونحوقل في دواخلنا بآمين.. وداخل بيوتنا بالإلحاح والضغط على أهالينا تلبية لشعار: "ادفع ريالا تنقذ فلسطينيا" حتى استجدينا كل ريال داخل تلك البيوت الطينية لكي يذهب إلى فلسطين.

الحقيقة الوحيدة مما ذكره معلمونا، أن إسرائيل استمرت عدوا.. إلا أنه عدو يرتقي ونحن نتراجع.. حتى أصبح ممسكا بكل خيوط اللعبة، وبالطبع نحن من بين الخيوط التي بين أصابعه.. ولا بأس أن نتحمل جورها وظلمها لأبناء جلدتنا، ولا عليه إن احتلت الأراضي وأرغمتنا على عدم المطالبة بها، لأننا جعلنا منها قضيةً نتسلق عليها، وإشكالية ننشد منها علواً وحضوراً، وحجةً لبعض يرى أن مصالحه واستمراريته ترتبط بجعل إسرائيل عدواً محارباً، ومازلنا نبكي من واقع عربي يريد ذلك، ويستخدمه في كل حين كورقة لتحقيق مصالحه حتى لو دمرت الأرض الطيبة وقتل الإنسان البريء.

نعود إلى ما بدأنا به: لماذا كذب الجميع علينا بالقول إن عدوا واحدا هو ما نُعنى به.. ما نعرفه أن إسرائيل قبعت في مكانها على أرض فلسطين ولم تصل إلى النيل والفرات والمدينة المنورة، وإن ازداد جورها على أهلنا في فلسطين.. لكن أعداء آخرين ظهروا أشد خساسة وتدميرا.. منهم من ينتمي لنا ومنهم من ائتمناه على ظهورنا فطعننا وحاصرنا وسلب كثيرا مما نملك، سواء كانت كرامة أم استقرارا وأمنا، وحتى عواصم عربية مهمة.

أما العدو الداخلي، فهم التكفيريون الإرهابيون الذين باتوا عدوا أشد من إسرائيل.. ينحرون الرضيع ويفجرون الآمن في بيته.. وأما الجار فهي إيران التي آثرت البغضاء وأعلت سوء النية حتى بتنا محاصرين من قبل ثورتها المصدرة إلى العالم العربي كله.. وبين أنيابها لن نقول ما قاله جدنا طارق بن زياد: "العدو أمامكم والبحر خلفكم"، ولن نجرؤ على التقليل منه كالهلال الشيعي الذي حذر ملك الأردن منه، بل طوق إيراني كامل نحن وسطه محاصرون.

ما العمل وطيف النجاة من الحصار الذي ما زلنا نستسهله وهو يشتد أكثر فأكثر.. ولعلنا هنا وسط قلة الحيلة نستعيد معلمينا السابقين، لعلنا من بعد كذب ومبالغة بعضهم نستطيع أن نتكيف مع الواقع.