مع قرب طرح أسهم البنك الأهلي للاكتتاب، فوجئنا بسيل الفتاوى التي يقف خلفها فقهاء المصرفية الإسلامية في مجتمعنا، بين مجيز ومعترض، ولم آبه كثيرا لتلك الخلافات التي طرأت عليهم، بقدر أنها نكأت في داخلي الجرح الغائر، وفجرت القهر والغيظ المكبوتين حيال بنوكنا السعودية، ودور هؤلاء الفقهاء في تديينها وإخراجها لنا بثوب الأتقياء.

أين هي المساهمات الاجتماعية الجوهرية لهاته البنوك؟

عندما تعصف بنا أزمة السكن، نرى البنوك السعودية تتفرج دون أية مبادرة منها، وعندما تلف بشبابنا وفتياتنا أزمة البطالة، نجد بنوكنا وكأن الأمر لا يعنيها، بل حتى في أزمة الأسهم الشهيرة، سارعت قبل كل شيء بوضع يدها على موجودات المقترضين منها، دون أية مساهمة في التخفيف عنهم.

سيرد عليّ أحد مديري البنوك من خلف مكتبه الوثير، بأننا في النهاية بنك تجاري ربحي ندير أرصدة العملاء، ولسنا جهة خيرية تقوم بالإحسان أو فرعا لجهة رسمية كمؤسسة النقد. أجيب هنا بأن للبنوك في معظم دول العالم مهام، بل واجبات تجاه المجتمع، ويتأكد الأمر عندنا بسبب أننا لا نتقاضى كمواطنين فوائد على أرصدتنا في البنوك، وأكثر من ذلك ما قاله لي رجل الاقتصاد د. حمزة السالم -قبل عامين في لقاء تلفازي- بأن: "بنوكنا تتمتع بكثير من الودائع المجانية، وتتمتع بإيداع فوائض احتياطياتها الزائدة عند مؤسسة النقد بالفائدة، وهذا مما لا تتمتع به البنوك الأميركية".

ألمانيا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ألزمت بنوكها ببناء بلدها -بما أورد د. عبدالقادر الحيدر بصحيفة (الاقتصادية)-، وقال: "تعهدت البنوك الألمانية بدعم بناء المئات من المجمعات السكنية والتجارية، وبيعت للمواطن الألماني بأسعار شبه رمزية". وأسأل بكل ألم وصراحة: من المسؤول عن هذه الحصانة التي تتمتع بها بنوكنا، وتركها تسرح وتمرح وترعى دون أية مساءلات عن أدوارها الاجتماعية؟ ولا أعني هنا تلك المساهمات الثانوية المضحكة التي تتبجح بها، وتضحك علينا وتدلّ بها إعلاميا، بل عن مساهمات حقيقية في تنمية المجتمع.

سقت في مقالة لي قبل سنوات ما قاله د. محمد بن سعود العصيمي، من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الذي قدّم ورقة عمل في ملتقى "تنظيم الأوقاف"، الذي رعاه وزير الشؤون الإسلامية، وأشار الى أننا لم نسمع عن بنوك سعودية أنشأت أوقافاً، أو أقامت أو ساهمت في بناء مدارس أو مشافٍ، أو دور لإيواء العجزة والفقراء، أو حتى مشاريع طرق وحدائق، أسوة بما تنفذه بنوك وشركات في دول أخرى، بل الأدهى والأمرّ أن عدداً من بنوكنا، لم تخرج زكاة الله المفروضة عليها شرعاً منذ عشر سنوات، دون حسيب أو رقيب.

أتمنى بكل صدق أن يتبنى أعضاء غيورون في مجلس الشورى، يحملون همّ الإصلاح، مقترحاً بإلزام البنوك بالمساهمة الجبرية التي تتوازى مع أرباحها الضخمة، وتكوين رأي عام يضغط على مؤسسة النقد، لأن البنوك السعودية بما يقول الخبير الاقتصادي د. طارق كوشك -الذي أقسم بالله في لقاء متلفز- لا يستطيع أحد الاقتراب منها، ومساءلتها عن أخطائها، وأن مؤسسة النقد تعجز عن ذلك، وقال بالحرف الواحد: "(ساما) لا تستطيع أن تفعل شيئاً حيال البنوك، لأنها محمية وخط أحمر"، وأورد شواهد لكلامه هذا..

وأتمنى مرة أخرى إعادة النظر في مسألة "أسلمة" البنوك هذه، فبعد كل هذه السنوات، لا يشعر مواطن بسيط مثلي إلا بأن البنوك زادت ثراء بسبب فتاوى بعض فقهائنا الذين هم أعضاء في لجانها الشرعية، ففي السابق كانت الفتوى الرائجة –للشيخ العلامة ابن باز- أن يأخذ المودع الفائدة الربوية ولا يتركها للبنك، ويتصدق بها، ولكن بعد هذه الأسلمة الصورية للتعاملات المصرفية، باتت البنوك اليوم تأخذ الربح والفائدة مضاعفة، ولا نسفّ والمجتمع إلا التراب.

لنكن صرحاء في هذه القضية، ولا تأخذنا العاطفة الدينية من أن نبحث عن الهدف المتحقق، فعندما أسست البنوك الإسلامية كبديل للبنوك الربوية كانت لها أهداف محددة تميزها عن المؤسسات الربوية، تأتي في أولها تطهير المعاملات المصرفية من الربا وسائر أنواع المعاملات الأخرى التي تتعارض مع الشريعة الإسلامية، وثاني الأهداف المساعدة على إيجاد حركة تنمية اقتصادية واجتماعية بإيجاد قاعدة إنتاجية في المجتمعات الإسلامية المحلية، وأتساءل هل حققت البنوك الاسلامية هذا الهدف بعد خمسة وعشرين عاما من انطلاقها تقريبا؟

هنا أحد المؤسسين للاقتصاد الإسلامي الشيخ صالح كامل، يتحدث في ندوة البركة عام 2011، ويقول: "البنوك والتمويل جزء من الاقتصاد الإسلامي الذي يبدأ بأن المال مال الله ونحن مستخلفون ونحن ملزمون بتنفيذ أوامر المالك في اكتساب المال وصرفه، ونحن مأمورون بإعمار الأرض، ويجب علينا أن يكون المقصد الأساسي للاقتصاد هو إعمار الأرض، وهذا يعني ضرورة خلق فرص عمل للناس".

بالله عليكم يا فقهاء المصرفية الإسلامية: هل تحققت هذه الأهداف؟، أعيذكم أن تكونوا مجرد واجهات لإضفاء الصبغة الشرعية الظاهرية فقط، وتتكسب البنوك من ورائكم بالأرباح الطائلة، فالله سائلكم عن أموالنا.

من يقود البنوك تجار وهوامير، وهؤلاء لا همّ لهم إلا الربح والتكسّب، فهل من قانون يلزمهم؟