قبل سقوط طرابلس 2011، في أيدي الثوار الليبيين والقضاء على القذافي بشهر ونصف تقريباً، تحدث الخبير الأميركي وبستر ترابلي المؤرخ المعروف في واشنطن، بأن الاستخبارات الأميركية كانت تدرب الجماعات القتالية في مدينة "درنة" وتهيئتهم لإسقاط القذافي، وأن الاستخبارات الأميركية استطاعت الحصول على معلومات كافية عن أسماء المقاتلين العرب الذين دخلوا في سجون العراق من جماعات القاعدة والمقاتلين في أفغانستان والعراق وغيرها.

وقد قامت أكاديمية ويست بوينت وهي الأكاديمية العسكرية الأميركية عام 2007 بالإشارة إلى حصول القوات الأميركية في العراق على ملفات السجناء في السجون العراقية، وحصلت من هذه الملفات على أسماء المقاتلين الذين كانوا يتنقلون على الحدود السورية العراقية، وقد أشارت الدارسة إلى أن "درنة" المدينة الليبية هي المدينة رقم واحد التي تصدر الإرهابيين إلى العالم.

إن التوسع الأميركي لا يمكن أن يتدخل عسكرياً في كل الأماكن التي يستهدفها، ولكنه يستطيع من خلال وجود هذه الجماعات القتالية أن يتدخل في كل مكان، وينفذ أجنداته المعدة سلفاً من خلال هذه الجماعات التي يتم اختراقها والتحكم بمراكز القيادة حتى من دون علم الأتباع، وتوجيه هذه الجماعات إلى الأماكن المستهدفة وإقناع العالم أو إرغامه بالمشاركة في "حرب الإرهاب"، وهو في النهاية تنفيذ لمخطط يُستخدم فيه الإرهاب "حصان طروادة" للتحكم والسيطرة.

وإذا كانت الاستخبارات الأميركية منذ 2007، تعرف تحركات هذه الجماعات وتعاظم أمرها بعد الثورة السورية، وهذه السيارات المئتين التي تجوب الصحاري الممتدة بين سورية والعراق، والدعم اللوجستي والتمويني للمقاتلين، وسهولة دخولهم وحركتهم على حدود الدول المجاورة، فلماذا تركتها تكبر وتتعاظم وتهدد السلم العالمي كما يقولون؟ ولماذا لم توجه لها الضربات منذ البداية؟ ولماذا لا تحاصر ممولي هذه الجماعات المكشوفين والأخفياء؟ وهل هي فعلاً بحاجة إلى هذه السنوات التي بدأت منذ 3 سنوات ووصلت الآن إلى 30 سنة حتى يتمكنوا من القضاء على "داعش" وأخواتها في المنطقة.

إن إحداث "الفوضى والخراب والتدمير" لا يحتاج إلى آلية محكمة للهدم، فالمقصد هو الهدم بأي طريقة إذا كان الهادم يفكر في كيفية "البناء"، ونحن نعيش الآن مرحلة "التدمير والهدم" الذي لا يستثني أحداً، بل يحرص الهادم على جعل الناس هي التي تهدم أوضاعها بنفسها توفيراً للتكاليف، واستعداداً لرسم الخارطة الجديدة المعدة سلفاً، ولذلك كانت هذه الجماعات "التكفيرية الدموية" هي الوسيلة المثلى للهدم، فتمت صناعتها وتسليحها وتوجيه حركتها نحو المخطط المعد، ومن ثم يسهل القضاء عليها بعد تنفيذ المخططات أو توظيفها لمشروعات أخرى في المنطقة وغيرها.

إن منطقتنا ـ للأسف ـ أصبحت مسرحاً للقوى المتصارعة، أبعادها استراتيجية ضخمة سياسية واقتصادية وعسكرية، وأدواتها "جماعات موجهة"، وطريقها "مفهوم جديد للحروب"، وأقطابها الغرب بسياقه الحضاري الاستعماري، والشرق بقيادة روسيا والصين التي ترى أن الاستحكام على المنطقة اقتصادياً وعسكرياً يعني توازناً للقوى الكبرى، وهذا يجعل الغرب وأميركا على وجه التحديد، ترى إخضاع المنطقة بالقوة لها والسيطرة عليها وقوفاً أمام أي تمدد أو توسع للشرق ودوله، وكذلك ضماناً لأمن الدولة الإسرائيلية التي هي مندوب الغرب السامي في المنطقة والتي يمثل وجودها وأمنها وتوسعها استراتيجية الغرب ومصالحه الآنية والمستقبلية، ولا يتم ذلك إلا بمزيد من التدمير المعنوي والحسي للعالم العربي والإسلامي.

هناك حالة "تبسيطية" للأحداث تقرأ ظواهر الأمور، دون الغوص في رؤية الخارطة العالمية المتصارعة على المصالح والنفوذ، وذلك لأن منطقة الشرق الأوسط هي قلب العالم النابض الذي هو مطمع للكل، والسؤال المهم في هذا السياق: هل نحن في منأى عن هذه المخططات؟ وهل يمكن للفاعل الرئيس أن يسرح هذه الجماعات علينا بعد أن يقضي وطره منها في العراق وسورية وكردستان وليبيا؟ وكيف يمكن أن نواجه هذه المخططات ونعد العدة لها؟

نحن واثقون من الحنكة السعودية وسياستها واستخباراتها التي تراقب المشهد وتعي المخطط وترقبه بدقة وتعرف كيف توازن بين المصالح والمفاسد حتى تحمي الدولة من العاديات التي تحاصرنا من كل حدب وصوب.