في حجته صلى الله عليه وسلم، وعند وصوله إلى جمع ـ مزدلفة ـ ؛ يحكي لنا ابن عمه ـ ابن العباس رضي الله عنهما ـ فيما رواه أصحاب السنن؛ ما حصل هناك بقوله: قال لي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "هلم القط لي"، فلقطت له حصيات، هن حصى الخذف ـ مما يحذف به ـ فلما وضعهن في يده، قال: "نعم، بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين".. حديث بقصة تحكي لنا تحذير معلم الأمة، وهاديها ـ صلوات ربي عليه ـ من التعصب، والتشدد، والتطرف، والتنطع، والاختلاف المذموم.. كتب الكثيرون، ومازالوا، حول الغلو وآثاره، والمشكلة ما زالت قائمة، وسأكتب وغيري كذلك، وكلنا متعلقون بالأمل في أن يعجل الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالقضاء على مظاهر الغلو؛ التي لا يكاد أحد منا إلا وقد عانى منها بطريقة أو أخرى.. المظاهر ـ وهنا أذكرها للتحذير من المتصفين بها ـ كثيرة، وفي مقدمتها: أن المغالي لا يعترف لغيره في الأمور الاجتهادية، التي تكثر فيها آراء السابقين. وأن المغالي يعشق إلزام الآخرين بما يراه؛ غير مكترث بالمشقة التي سيعاني منها غيره. وأن المغالي غليظ الطبع؛ فلا يعرف رفقا لا مع كبير، أو صغير، حتى لو كانوا من أرباب الحقوق عليه، كالوالدين، ومن في درجتهما. وأن المغالي سيئ الظن بمن يعرفهم، ولو كانوا أمواتا. ولأجل أن تكتمل جوانب المقال، وبعد سرد أبرز مظاهر المغالين؛ سأعرج على أبرز الحلول المطلوبة للإنهاء أو التقليل من آثار هذه الأزمة العصية: المقدمةُ تتبوؤها بكل استحقاق مفردة (التوسط)، إذ الحل في غالب أمورنا لا يمكن أن يكون بدونها بلا أدنى شك. ومن الحلول الناجعة ترك تقديس النصوص، والتعامل معها وكأنها قد أنزلت من السماء، أو قالها من لا ينطق عن الهوى ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ ويعجبني في هذا الصدد قول الشيخ ابن قيم الجوزية ـ ابن القيم ـ في كتابه الشهير (إعلام الموقعين عن رب العالمين): "نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة". ومن الحلول المهمة البعد عن التجريح، والتبديع، والتفسيق، والتكفير. ومن الحلول الضرورية التسامح وخصوصا في الأمور المختلف عليها، لا سيما أنه: "لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه"، ومن ذلك اللحية، والحجاب وغيرهما.

أختم بمسألة مهمة؛ وهي ما يتناوله الناس عن موضوعنا، إذ نجد البعض يبذل جهده للتحلل من الغلو بالخطأ، فيقول قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"، ويظن خطأً تعدد الحق، ويضيف قائلا إن أغلب الفقهاء على أن "الحق في طرفين" ـ أي أنه متعدد؛ وأن القلة تقول "الحق في جهة واحدة" ـ أي أنه واحد ـ وهنا أؤكد على أن من أفضل من استطاع تفسير هذا الحديث الشريف هو الإمام الشافعي إذ قال: "يؤجر ـ أي المخطئ ـ، ولكنه لا يؤجر على الخطأ؛ لأن الخطأ في الدين لم يؤمر به أحد، وإنما يؤجر لإرادته الحق الذي أخطأه".

خاطرة:

لا حفظ من الغلو إلا بالتفقه في الدين.