أكاد أجزم بأن المرحلة الحالية التي تتعارك فيها القوى والمصالح السياسية والأيديولوجية من أصعب المراحل التي يمر بها أي مثقف أو مفكر مستقل، غير متحزب أومسيس أو مؤدلج، حيث بتنا نمسي على مفاجأة سياسية، ونصبح على أخرى.
الجميع يطالب المفكر والمثقف أو حتى الأديب البسيط أو الكاتب الصحفي، أن يكون صاحب رأي وموقف واضح تجاه الأحداث المتلاحقة، بل وصل ببعض "الانتهازيين" الذين يعتقدون أنهم سيستفيدون من تلاطم الأمواج الحالي في تحسين مواقعهم وحضورهم الشعبي أو الرسمي، إلى اتهام كل مثقف أو مفكر عربي آثر الصمت قليلا ـ لمراجعة الذات أو لعله يفهم ما يدور حوله بشكل صحيح حتى يكون رأيا سليما ـ بـ"الخيانة" أو "العمالة" لطرف ضد آخر. المشكلة أن معظم هؤلاء المندفعين لـ"التخوين" لا يشعرون بأي حرج في الانقلاب على مواقفهم وآرائهم السابقة بين ليلة وضحاها، تبعا لتغير الموجة السياسية أو الجماهيرية، بل ويعدون ذلك من"المرونة" في المواقف. ولذلك فهم يعتقدون أن مفكرا أو مثقفا، بنى سمعته وحضوره من خلال كتابات وأبحاث وكتب قد تصل إلى العشرات، بإمكانه أن يكون "زئبقيا" مثلهم، يمكنه التملص من طروحاته وآرائه السابقة، خلال دقائق. وهذا بالطبع لن يحدث لمن يملك مبادئ وقيما إنسانية حقيقية، فما بالك إذا كان مفكرا مستقلا.
إذا كان السياسيون أنفسهم والمحللون المتخصصون في الجوانب السياسية ومراكز الأبحاث، لا يستطيعون إعطاء آراء واضحة حول الكثير من المتناقضات وخفايا الصراعات والحروب الحالية، فكيف يطلب من المثقف والأديب ذلك؟
ولعلنا نرى المواقف المحرجة التي يعانيها يوميا بعض من يحمل راية الثقافة والأدب والكتابة، ممن انغمسوا في المواقف والطروحات السياسية، وتماهوا معها لدرجة أنهم تحولوا من "مثقفين" إلى محامين لقضايا لم يعرفوا عنها إلا القشور، وثقافة "قيل وقال"، لكن مشكلتهم أن هذه المواقف السياسية غير ثابتة وأحيانا لا تضع القيم الإنسانية في صدارة اهتماماتها، فكما هو معروف في علم السياسة، أنها فن الممكن و"ميكافيلية" المصالح والاتجاهات. ومن خلال متابعة بسيطة لما يدور في الساحة العربية، أعتقد أن الكثير من الكتاب والمثقفين العرب الذين تلبسوا ثوب "السياسي النفعي"، لم يكونوا مضطرين لذلك، بل أجزم أن أكثرهم لم يطلب منه شيء حتى مجرد إبداء الرأي، ولكن هؤلاء يعشقون دائما ركوب الموجة، حتى وإن لم يكونوا مدركين المسافة بينها وبين الشاطئ، فالاحتمال الأسوأ أن تتكسر بهم وسط الأمواج فيغرقوا مع الغارقين.
المثقف الحقيقي، موقف وطني صادق وشفاف، لكن ليس بالضرورة أن يكون مشاركا في كل "زفة" قد تنهي بالطلاق.