الجميع يعرف أننا نوجه تراجعاً هائلاً في معدلات قراءة الكتب، وهي المعدلات المنخفضة أصلاً! فما بالك اليوم بعد دخول الهواتف الذكية على الخط، وقدرتها على إشغال حاملها لفترات زمنية قد لا تنتهي، ولكن يبقى للكتاب عبق دائم، وفوائد لا يمكن إحصاؤها، وغنائم لا يقدرها إلا من تذوقها، وعاش في نعيمها مرات ومرات عديدة.

لكن ألا يستحق مجتمعنا أن نفكر بمبادرات جريئة؟ تحاول تقريب أفراده من الكتب وملامسة الورق، كما فعلت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بالرياض حينما تشجعت ووضعت ركناً لقراءة الكتب في مطار الملك خالد الدولي، وسمحت للمسافرين باختيار ما يعجبهم، ثم قراءته حتى موعد إقلاع طائراتهم، والرائع في الأمر أن التجربة نجحت بتفوق، وكثير من المسافرين يطالب الآن بالعمل على تنويع القائمة وزيادة عدد الكتب المتاحة.

لكن ماذا لو خرجنا إلى المجتمع، وحاولنا جذبه نحو الكتب بطريق سهلة وبسيطة، بدلاً من الاختباء خلف طاولة الاستعارة، وانتظار الجمهور أن يقود سيارته، ويوقفها في المواقف المخصصة، ثم يدخل المكتبة ويتجول في أرجائها الضخمة، حتى يصل إلى مرحلة التسجيل والاستعارة، وبالطبع كل هذا يستهلك وقتاً طويلاً لا يملكه الكثيرون، دون إغفال أنه جهدٌ قد لا يشجع الآخرين على محاولة القراءة فضلاً عن الذهاب إلى مكتبة أصلاً!

هذا ما حدث فعلاً في الحي النيويوركي الصغير "نوليتا Nolita" الذي يقع في الجزء السفلي من حي شبة جزيرة منهاتن، حيث لاحظت من فترة خلال مروري بالحي وجود خزانات صفراء مقلوبة رأساً على عقب في بعض شوارع الحي الصغير، لم أعرها الانتباه في بداية الأمر، حتى تغلّبت عليّ الشهوة البشرية بحب الاطلاع والتعرّف على الأشياء، واقتربت من أحدها، حيث تعجبت من وجود بضعة ثقوب في جدار الخزان تساعد على إلقاء نظرة خاطفة داخله، والذي اكتشفت من خلالها وبعد النظرة الأولى أن تلك الخزانات لا تحوي شيئاً سوى الكتب! نعم خزانات ماء عتيقة تحولت هكذا إلى مكتبة متناهية الصغر لاستعارة الكتب.

لم يكن مكتوب عليها سوى "مكتبة مجانية صغيرة" ومن الداخل رفٌ واحد من الكتب، مقسم إلى قمسين اثنين؛ الأول للكتب المعدة للاستعارة والآخر للكتب المعادة، هنا بدأت بالبحث عن هذه المكتبات الصغيرة، والتي بدأت بالانتشار في مدينة نيويورك، وبأشكال مختلفة مثيرة للاهتمام! فوجدت أنه هذه المبادرة "اللطيفة" جاءت نتيجة شراكة "الرابطة المعمارية للنيويورك" و"مهرجان أصوات عبر العالم" بهدف العمل على إحياء الروح الإنسانية للحي السكني، والاقتراب بالكتاب نحو السكان قدر الإمكان، إذ وبعد الإعلان عن المسابقة المعمارية وشروطها الاجتماعية عام 2013، تأهل للنهائيات عشرة مصممين معمارين، وكان من أجملها فكرة التصميم الذي تقدم به مكتب "ستديو تانك" وهو أحد الأستديوهات المعمارية النيويوركية الشهيرة، واختير حي "نوليتا" لتنفيذ الفكرة بعد موافقة مؤسسات المجتمع في الحي، ثم تبرعت مدرسة القديس باترك القديمة في الحي نفسه لاستضافة ورشة العمل.

يقول المصمم "مارسيلو إرتورتيقاي": إنه استطاع بفكرة إعادة تأهيل خزانات المياة القديمة إلى مكتبات صغيرة؛ استطاع الخروج بوظيفة جديدة لهذه الخزانات عديمة الفائدة حالياً، والتي كثيرٌ منها حالياً يقبع دون فائدة على أسطح البنايات القديمة في الحي، بيد أن الأجمل في الفكرة - أيضاَ -: أنه بدخول المهتم وسط هذا الخزان سوف ينعزل نوعاً ما عن محيطه ليستطيع الاطلاع السريع على الكتب المعروضة، واختيار ما يناسبه منها.

بالطبع الفكرة رائعة وسهلة، مما جعلها تتطور وتتوسع في المدينة وخارجها، والفضل يعود في ذلك لوجود عددٍ من المهتمين بإعادة روح الثقافة وأنسنة شوارع المدينة من جديد، ومنها المنظمة غير الربحية: Little Free Library "المكتبة المجانية الصغيرة"، التي أسسها "تود بول" في "ويسكونسن" إكراماً لذكرى والدته المحبة للكتب والقراءة، ولكن الحديث عن هذه المنظمة الرائعة يحتاج مقالاً مستقلاً، لكونها فكرة مهلمة وذات أثر واضح ليس فقط على مستوى الولايات المتحدة الأميركية، بل على مستوى دول كثيرة حول العالم، ولكن ماذا لو استطعنا تطوير تلك الفكرة وتحويرها لتناسب مجتمعنا؟ خصوصاً مع الموجة القادمة لمشاريع قطارات النقل العام في المدن الكبرى: الرياض، جدة، والدمام، ماذا لو أوجدنا مثل هذه المكتبات الصغيرة في محطات الانتظار المتعددة؟ الصغيرة منها والكبيرة، واتحنا الفرصة للمهتم بأن يستعير كتاباً في محطة الانطلاق ليعيده في محطة الوصول وهكذا دوليك، أما لمن فقد الأمل في الكتاب الورقي، فمن الممكن أن نتيح تحميلاً مجانياً لكتب إلكترونية مختارة يقرؤها الراكب خلال رحلة في القطار، من خلال قراءة جهاز الهاتف لرمز شريطي "Bar Code" مجاني يتغير كل فترة محددة، دون إغفال خطوط الحافلات كذلك.

أيها الأصدقاء أفكار تحفيز القراءة كثيرة، ووسائل تنفيذها غير مكلفة؛ بقي أن نبادر ونتخذ القرار.