الكل ما عاد يتحدث إلا عن "داعش"، ولا يلام. فأفعال هذا التنظيم تثير اشمئزاز النفس السوية، تصرفات همجية وحشية، ابتعاد عن كل القيم والمبادئ والأخلاقيات.

ومن وجهة نظر شخصية لا علمية، أرى أن المكرونة مجرد خيوط مجهولة التكوين خالية من أي طعم، تمتاز بسرعة التحضير وسرعة الهضم، تجعلنا نصل إلى الهدف النهائي المتمثل في الشبع، إنها طعام مستساغ وليست غذاء، وهذا رأيي في المكرونة ولأهل المفطحات آراؤهم المعتبرة.

وبما أن الحديث ذو شجون، متشعب متفرع يجر بعضه بعضا كالمكرونة، لاحظت أن غالبية تحليلات المثقفين والمفكرين والمحللين المنشغلين بتوضيح مسببات ظهور الفكر الداعشي لا تختلف كثيرا عن المكرونة، تحليلات سريعة التحضير والهضم، وفيها شيء من المنطقية والوجاهة، تجعلنا نشعر في الأخير بالشبع الفكري حد التخمة لكن بلا قيمة توعوية.

غالبية تحليلات المحللين وآراء المثقفين والمفكرين المعتبرين تلقي باللوم على فوضوية الخطاب الديني، وهذا رأي منطقي جدا لسببين، أولا: أن الفكر الداعشي يتدثر بالرداء الديني، ثانيا: لأن فوضوية الخطاب الديني اليوم جعلته مطية لكل مريض. من هنا يمكن القول إن مشكلة تلك التحليلات ليست في كونها خاطئة إنما في كونها صحيحة ولا غبار عليها، لكنها بلا طعم ولا قيمة، وهي في الغالب تندرج تحت بند "ما يطلبه المستمعون".

لا يمكن إنكار أن الخطاب الديني في الوطن العربي بات بيئة فوضوية خصبة لإنتاج كل تطرف، خطاب غارق في الشكليات والقشور، رافض للفلسفة والمنطق وإعمال العقل، مغلق للكثير من أبواب العلم، خطاب ماضوي غير واقعي.. إلخ من الصفات التي تجعل إحالة الفكر الداعشي إلى فوضوية هذا الخطاب أمرا مستساغا لدى شريحة كبيرة، لكن ليس كل ما يستساغ يعد غذاء.

لنفترض أننا وبعد بذل الجهد اللازم نجحنا في تحويل الخطاب الديني من حالة الفوضوية إلى الانتظام، وأننا جعلناه خطابا واقعيا حضاريا، فهل ستنتهي مشكلة التطرف؟ في رأيي أننا حينها لن نتخلص من التطرف إنما نكون قد مارسنا التضييق عليه، لأن التطرف الذي وجد في فوضوية الخطاب الديني متنفسا له لن يعجز أن يجد له متنفسا آخر بديلا عن المتنفس الديني، بمعنى آخر: قد يظهر الفكر الداعشي في الغد برداء لا ديني أو علماني وهذه معتقدات فيها من الفوضوية ما الله به عليم.

ولنفترض مرة أخرى أننا نجحنا في تصحيح مسار مثل هذه الاتجاهات والمعتقدات، فهل ستنتهي مشكلة التطرف؟ أيضا لن تنتهي المشكلة، لأن التطرف إن لم يجد رداء يتستر به فلن يجد حرجا أن يظهر عاريا على الملأ، وهذا أسوأ تطرف لأنه سيكون تطرفا لمجرد التطرف، سخطا لمجرد السخط، تطرفا لا يهدف إلى إقامة شرع يفهمه أو طمعا في سلطة أو مال، وهذه الحالة قد لا تسمى تطرفا بقدر ما تسمى همجية واضطرابا.. والعنف في حالة الهمجية مجرد طبع!

السؤال: هل تحول الإنسان للهمجية مجرد فرضية أم مسألة قابلة للتحقق؟ الجواب نجده في ثنايا نظريات الحاجات الإنسانية، حيث تفترض تلك النظريات أن حرمان الإنسان من حاجاته الأساسية مسألة من شأنها أن تجعله يفقد الأمل ويشعر باضطراب، فإن حصل وفقد الإنسان الأمل أو شعر بالاضطراب فهذا من شأنه أن يكسر القيود التي تقيده بالتمدن والتحضر "كالدين، الأخلاق، الأعراف، القوانين".. سيكفر الإنسان بكل هذا أو سيستغله سعيا لاستعادة الطمأنينة.

إن "الدين، الأخلاق، الأعراف، القوانين" بمثابة عقود بين الفرد والمجتمع، عقود تلزم الفرد بالتعايش السلمي ثم تلزم المجتمع بتأمين حاجات الفرد، فإن لم يلتزم الفرد تجاه المجتمع عوقب بالسجن - كمثال -، أما إن لم يلتزم المجتمع تجاه الفرد عوقِب بالتطرف، وإن لم يستوعب المجتمع الدرس بتطرف أصحاب الانتماء سيعاقب بتطرف لا انتماء له - لا دين ولا أخلاق ولا فكر - تطرف لمجرد التطرف، عنف من باب المتعة فقط.

لهذا فإن "داعش" نتيجة وليست منتجا، نتيجة لعدم توفر حاجات الإنسان العربي الأساسية، بدءا من الحاجة إلى الطعام والشراب والمسكن، مرورا بالحاجة إلى الشعور بالأمن "المادي والنفسي والفكري"، وانتهاء بالحاجة إلى الشعور بالانتماء. حيث للفرد صلاحية المشاركة في القرار، وكل هذه الحاجات مرهونة أولا وأخيرا بتطبيق العدل بكل مستوياته، لهذا، حين يقال إن المسؤول عن التطرف هو هذا الفكر أو تلك الجماعة فإن القائل هنا يقدِم وجبة سريعة التحضير سريعة الهضم تقنِع المتلقي بأن ما يقال يحوي فعلا كل المشكلة.

وإن كان المعتدلون مطالبين بتصحيح فوضوية الخطاب الديني فإن الأنظمة العربية مطالبة بتصحيح آلياتها وطريقة إدارتها. لأن نهجها الحالي لا يقضي على التطرف بل ربما يهيئ الأجواء لولادة تطرف من نوع جديد، وحتى ذلك الحين فلنقنع أنفسنا بأن المكرونة غذاء.