مقالتي اليوم امتداد لمقالتي السابقة "لكي لا نخدع أنفسنا" بتاريخ 19 سبتمبر 2010، والتي استعرضت فيها الفروق المتعددة بين دول العالم النامي والمتقدم، وكيف أن هذه الفروق تسهم بشكل جذري ومباشر في درجة تقدم بلد ما وتأخر بلد آخر. الهدف الرئيس من تلك المقالة كان عدم القفز إلى النتائج وضرورة التمعن والتفكير في سمات بلادنا عند مقارنتها بدول أخرى.
المجتمعات المتقدمة لم تتقدم بسهولة وإنما عانت الكثير ودفعت ثمنا باهضا ولا يتوقع أحد بأننا في سعينا للتقدم نستطيع أن نتحول بين ليلة وضحاها، وأن التقدم سيأتي إلينا بغتة، أو إن وضعنا الإقتصادي سيمكننا من التقدم والقفز السريع فوق الخطوات دون النظر إلى الإنسان فوق الأرض والذي قد لا يتمكن من مواكبة التغيير السريع للأمور من حوله. صحيح أن وضعنا الاقتصادي يعيد تشكيل خياراتنا ويساعدنا في تسريع التحول لكن مع كل خطوة نخطوها للأمام هناك محاذير وأثمان تدفع. وبرغم أن مجتمعنا قد استطاع بفضل الله تحقيق الكثير من النمو خلال الفترة الماضية وتم اختصار الكثير من الوقت في عملية التحول التنموي.. لكننا أيضا، كغيرنا من الدول دفعنا أثمانا باهظة نتيجة هذا التحول. أكثر هذه الأشياء مدعاة للقلق والتغير في منظومة "القيم" التي يحملها المجتمع السعودي، وفي نظري أنه ما كان من الممكن مقاومة الرغبة في النمو دون تسريع عجلة التغيير في ظل الإمكانات المادية الهائلة التي أتت بها طفرة السبعينات من القرن الماضي.
اليوم تمر بلادنا بطفرة مادية جديدة تختلف خصائصها عن الأولى ولا يمكن أن نتعامل معها مثلما تعاملنا مع الطفرة الأولى. حطت هذه الطفرة الجديدة في ظروف وبيئة مختلفة ومجتمع غير مجتمع الأمس. مجتمع ما بعد طفرة سبعينات القرن الماضي عانى من تشوهات نتيجة الطفرة وما تلاها من انحسار شديد في الإيرادات ثم صعود طفيف حتى وصلت إلينا الطفرة الجديدة ترافقها تحديات عصيبة وظروف استثنائية أهمها أننا ننتمى إلى منطقة شرق أوسط ملتهب، نعايش أوضاعا اقتصادية وسياسية سيئة لبعض بلدان الجوار، نعاني من تأثير زمن أزمات اقتصادية عالمية وإقليمية، إرهاب داخلي وخارجي يدفعنا لتوجيه الغالي والنفيس لمحاربته، أجهزة حكومية تراخت في فترات سابقة وتواجه الآن حركة إصلاح واسعة في كافة أنشطتها مدعومة بشفافية أكثر من قبل. رافق عملية الإصلاح هذه مساحة كبيرة من الحرية في الصحافة ووسائل الإعلام وفضائيات انتشرت بشكل عشوائي وشبكة إنترنت تعمقت خصائصها فينا كمجتمع، اندمجنا مع ثقافات أخرى داخليا وخارجيا، وبرزت طبقة سعودية فقيرة للغاية كانت في السابق غير معروفة لنا.
القائمة تطول لكن المهم أن كل ما فيها صب وما زال يصب في تشكيل وتغيير توجهات وقيم ومدركات وطموحات وطريقة تفكير الفرد السعودي الذي أراه العنصر الحاسم والصعب أيضا في معادلة التنمية. لذلك لا غرابة أن يأتي هذا الفرد السعودي لمكان عمله ورزقه محملا بفكرة وقيمه وتوجهاته الجديدة ليفرض واقعا جديدا قد لا يتوافق مع متطلبات التنمية. التنمية والتطور تتطلبان إدارة قوية تحارب السلوك غير السوي بشتى أنواعه. ما يحدث اليوم هو أن نسبة كبيرة من أفراد المجتمع قد تترّسوا خلف قيم وتوجهات جديدة وقاموا بتشكيل شبكاتهم غير الرسمية داخل الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص وشكلوا ثقافة عمل جديدة بعيدة كل البعد عن قيمنا القديمة التي كان الإسلام يشكل قلبها وروحها. اليوم نعيش زمنا أصبح الإسلام يغلف أشياء كثيرة لا علاقة لها بروح الإسلام وتسامحه. اليوم نحن في تحد كبير مع أنفسنا جميعا لتنقية إسلامنا السمح مما يشوبه من ترسبات ومن قيم دخيلة اختلطت به حتى تهيأ لنا أننا نعيش إسلاما نقيا. يكفي أن ننظر حولنا لنرى كيف تمكنت القسوة منا في تعاملنا مع الغير.
شيء حز في نفسي مؤخرا. قضية الشخص المتهم باغتصاب ثلاث خادمات وقتلهن. قام صاحب المنزل الذي تسكن فيه عائلة المتهم بطردهم للشارع. صحافتنا تابعتهم وصورت هذه الزوجة وأبناءها وهم يسكنون ويتسولون في الشارع. لا أعلم حتى اليوم إذا كان أحد أو جهة حكومية قد آوت هذه الأسرة التي لا ذنب لها - قال الله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) {7}سورة الزمر.
الدولة تسعى منذ فترة غير قصيرة لرفع شعار "مملكة الإنسانية".. كم هي عظيمة بلادنا التي أكرمها الله بقيادة تعي دورها تجاه الأمور.. وكم هو تعيس أن يكون فيها صاحب مسكن يطرد أسرة بهذا الوضع إلى الشارع. لو أن كلبا ضرب في أحد شوارع الغرب لهاجت وقامت الدنيا وجمعيات حقوق الحيوان. هذا هو الفرق بين المجتمع النامي والمجتمع المتقدم.