هناك قضايا اصطلاحية تحتاج لمزيد من التطوير اللفظي والاشتقاقي والبحث اللغوي في جذورها بحيث تكتسب مزيدا من الانزياحات التي تواكب حركة الواقع، وبما أننا في عصر يتقارب ويتماس أكثر بما يجعلنا أكثر اندماجا ثقافيا أو اجتماعيا أو اقتصاديا أو حتى سياسيا، فإننا أمام واقع تشكيل إنسان أممي أو مجتمع دولي جديد ومتجدد، وبذلك فإن عملية انزياح المصطلحات تصبح أكثر حيوية حتى تخلق الإطار الدلالي المناسب للبشر، شرقا أو غربا.
بصورة عامة فإن تأطير قضايا الثقافة والموروث والأنماط في مسارات جغرافية، بين الشرق والغرب، أصبح غير قابل للتداول إلا في أبعاده التاريخية فقط، حركة الحاضر أسرع من أن تبطئ في محطات ذلك التاريخ، كما أن الجغرافيا مرشحة لأن تصبح أكثر تغيرا وديناميكية، ولذلك قد يبدو صعبا الحديث عن ثوابت عملاقة بين الشرق والغرب أو الشمال والجنوب باستثناء الطرح الجغرافي والسياسي في حدود ضيقة، وعليه لا يمكن الحديث عن مصطلحات في سياقات جغرافية أو تاريخية إلا في الإطار الجيوبوليتيكي فقط، لأن ذلك يلزم الانزياح والذي بدوره يكتسب طاقة ميكانيكية في الدلالات اللغوية بما يجعل المصطلح متغيرا وليس ثابتا.
مصطلحات لا منتمية مثل الحرية والتحرر والانفتاح والحق والحقيقة والحقوق، ذات أجنحة تمنحها الانفلات الدلالي في كل عصر، ومع تغير الأنماط الاجتماعية يبقى الجذر اللغوي ثابتا وفي مستوى الإدراك لكن المعنى المطلق يستحيل أن يتحقق، أي أننا نتعامل مع مصطلحات نسبية تتراوح في دقّتها الدلالية بين مستويات الوعي الفكرية والإحاطة العميقة بمقاصد الكلمة وتفسيرها للمجريات في مختلف المجالات، وقد ينتج عن ذلك فهم سلبي أو إيجابي يتناغم مع المقتضيات الفكرية والاستدلالات المنطقية للكلمة المصطلح.
في المستقبل القريب سيحدث تآكل للمصطلحات والمفاهيم الثابتة من عمقها الداخلي، بمعنى تقليص الرفض لها وتفريغها عمليا من مضمونها، لأن الحشود البشرية في مختلف مجتمعاتها ستفضّل أن تتعامل مع المصطلحات بما يتكيف مع حاجتها للتقارب فيما بينها، فتتحول الحرية إلى تحرر والعكس، ولا تصبح هناك حدود فاصلة بين الحقيقة والحقوق والحق، سواء كان ذلك في أطر دينية أو اجتماعية أو ثقافية، لأننا أمام اتجاه لتحطيم فكرة الأقطاب وتذويب الثقافات والانحياز إلى عمق إنساني لا يعترف بأي شكل من أشكال الفصل الإنساني الثقافي والاجتماعي.
تطور العصر الحديث يزيد من قوة النشاط والحيوية البشرية للاندماج وتجاوز الأفكار التقليدية العتيقة حول المصطلحات التي ظلت تشكل عائقا أمام التطور البشري وسببا في صراعاته المزمنة التي ظلت تتوارثها الأجيال البشرية دون مسوغات حقيقية، ولذلك فإن بروز فكرة الإنسان الكوني إنما هي تعبير حاسم عن الشكل الإنساني المقبل في المستقبل، حين يحدث انفتاح ثقافي من خلال عملية تفاعلية تزداد بساطة وسهولة يوما بعد آخر، ويلي ذلك وجود مقاربات لغوية تسمح بولوج المقاصد والأهداف الى الدائرة العقلية والإدراكية، ثم تشكيل المجتمعات بصورة متطورة عن الفكرة الافتراضية الحالية كما يحدث في مواقع الشبكات الاجتماعية.
ذلك هو الإنسان الكوني الجديد الذي يمزج ويدمج كل المصطلحات ذات السمة الواحدة والدلالة المشتركة، ومعه ينتفي التمييز الجغرافي السائد، بحيث تصبح الحقيقة ملكا مشاعا للجميع على نموذج "ويكيليكس" والعالم أكثر انفتاحا على نموذج "الاتحاد السوفيتي" وأكثر اجتماعية وتقاربا على نسق "تويتر" و"فيسبوك" وكثير من التطبيقات التقنية في الهواتف الذكية والإنترنت، وذلك كله يجعل المصطلحات غير ذات قيمة أو جدوى ولن يتوقف عندها الإنسان الكوني، خاصة وأن هذا الإنسان سيميل إلى اعتماد وتطبيق المصطلحات التي تتوافق مع شخصيته دون ضغوط اجتماعية أو غيره، ويصبح بالتالي متحررا ومتمتعا في نفس الوقت بكل حقه في الحرية الذاتية ويحدث له مزج وتمازج بين الحرية والتحرر، وحين يتوافق مع غيره ممن يتواصلون معه إدراكيا ويتفاعلون معه نفسيا تكبر حينها الدائرة الاجتماعية ويتغير النمط الاجتماعي بحسب أهداف ومقاصد هؤلاء، وعندها نصل مرحلة اللاعودة وهي الإنسان الجديد أو إنسان المستقبل الذي لا يمكن السيطرة عليه.