نعم نحن بحاجة إلى كثير من الأدب بأي معنى أردته من هذه الكلمة الرقيقة، لأن الأدب في جزء كبير منه هو كلمات، والكلمة هي التي تصوغ الفكر وتشكله. ولكن أين نجد الكلمات المؤثرة التي تذهب عميقا في النفس لتكون بذرة تكبر وتنبت أفكارا صحيحة كالأشجار لتشكل بساتين حب ومشاعر، وتقدير واحترام، وعلم وثقافة وانفتاح؟ أين هذه الكلمة التي إن تكاثرت وتتابع انسيابها سلسا عذبا في أوردة الفكر والوجدان تعودت النفس على هذا التدفق المعرفي الزخم، وشعرت بلذة هذا الغذاء الروحي الفكري الوجداني، لتدخل محراب الفكر والتأمل فتكون الطمأنينة والهدوء ورونق المعاني السامية والأفكارالجليلة التي تملأ هذه النفس؟ وتكون هذه الكلمات.. البذور ثم الأشجار قد كبرت وترعرعت واستطالت فعمت المكان وجللته، لتصبح النفس الجرداء من كل شيء واحة خضراء من الفكر والوعي والمشاعر، ولتنمو المساحة الخضراء البسيطة التي تشكلت بهذه الكلمات إلى بساتين خضراء سامقة أشجارها لا حد لنضرتها، يانعة أثمارها فواحة أزهارها ملونة مروجها رقراقة مياه خلجانها وأوديتها.

أين هي هذه الكلمات؟ ألا من يدل عليها؟ من يرشدنا إليها؟ أم أن هذه الكلمات موجودة ونحتاج نحن إلى أن نبحث عنها؟ وهنا يأتي السؤال الأهم: أين نبحث عنها في هذا الخضم الإعلامي الذي لا يعرف إلا السطحية في كل شيء!! نعم، فنحن نعتبر أن قراءة حكمة أو حكمتين في وسائل التواصل الاجتماعي ثقافة! ونعتبر المشاكسات والتطاول على الآخرين في هذه الوسائط حوارا ونقاشا موضوعيا! وإذا تركت هذه الوسائط فانظر ما الذي يشغل الناس من وراء متابعة أخطبوط الإعلام: التلفزيون! إما أن نصبح جميعاً مغنين ومغنيات أو تتوقف الحياة ونعطل عقولنا ونؤجرها للمسلسلات والأفلام تزرع فينا ما تشاء وتشكل قيمنا وتصوراتنا عن الحياة! وهل هناك شيء آخر غير استلطاف مبتذل أو انشغال في فراغ في جل الإذاعات الجديدة؟

حبذا لو نبذل جهدا أكبر في تحبيب الأجيال الجديدة في القراءة والاطلاع، حبذا لو تجعل تربيتنا في مدارسنا هدفها تحبيب القراءة والتعريف بأدبائنا ومفكرينا، ألم يقل أمين الريحاني إن الأمم لا تنشأ إلا بنشوء أفرادها! وهذا أحد فلاسفة الثورة الفرنسية ومفكريها (هلفثيوس) يقول: "إذا استطعت أن أدل على أن الإنسان ليس في الواقع إلا نتيجة التربية فأكون بلا شك قد أعلنت حقيقة عظيمة للأمم". إن الشغف بالعلم والمعرفة يصقل الأفكار ويهذب النفوس ويبني العقول الناقدة، ولنا أن نقرأ لفيلسوف الأدباء الدكتور زكي نجيب محمود في "قصة عقل" أن العربي بصفة عامة أشد ميلاً بحكم ثقافته إلى العبارة المثيرة للوجدان منه إلى العبارة المستندة إلى العقل". وكتب أيضاً عام 1982عن سبب قصور الفكر العربي النهضوي الحديث عن بلوغ ثماره، وقال: "أسئلة كهذه كنت ألقيها على نفسي فأجد لها جوابا واحداً، هو: نقص في تربية العقل، وإسراف في إشعال الوجدان". وعلى ذكر العقل هل من الممكن ألا يتم ذكر العالم الأديب المؤرخ الأستاذ أحمد أمين الذي وضع هو وزميلاه الدكتور طه حسين والأستاذ عبدالحميد العبادي مشروعاً يدرسون من خلاله الحياة الإسلامية من نواحيها الثلاث في العصور المتعاقبة: الحياة الأدبية، والحياة التاريخية، والحياة العقلية، فلا ينجز أحد ما ألزم نفسه به إلا أحمد أمين ليخرج لنا برائعته المعنونة بفجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر الإسلام، هذا بخلاف أسلوبه المنساب الخفيف الذي يخاطب العقل والوجدان في سلسلة مقالاته التي نشرها تباعاً في مجلة الرسالة ثم مجلة الثقافة وضمنها في عشرة مجلدات عنونها بـ"فيض الخاطر" تجد فيها الحس الاجتماعي بارزا، ومما قاله مرة مثلاً: "والحياة فن من الفنون فإذا ضاع فن الحياة ضاع السرور بها، بل إن السرور بالحياة نفسه فن من الفنون..

فالسرور يعتمد على النفس أكثر مما يعتمد على الظروف، وفي الناس من يشقى في النعيم ومنهم من ينعم في الشقاء، ومن الناس من لا يستطيع أن يشتري ساعة سعيدة ضاحكة مستبشرة بأغلى الأثمان، ومنهم من يستطيع أن يشتريها بأتفه الأثمان... وإن راحة الضمير ولذة العقل، ولذة الروح، ولذة النفس واللذة التي يشعر لها المرء أنه مصدر للخير يشعه على الناس كما تشع الشمس ضوءها؛

كل ذلك ابتهاج بالحياة لا يعادله التمرغ في اللذات الدنيئة الوقتية التي تسبب لذة عارضة تعقبها حسرات دائمة". وهل هناك من يريد جرعة في الإنسانية؟ أين هو إذاً من أديب الإنسانية مصطفى المنفلوطي، اقرأ له في "النظرات" أو"العبرات" أو في قصصه التي أعاد صياغتها بعد الترجمة ثم أعد النظر في نفسك ستجدك ولا شك أكثر إحساساً ببؤس الناس ومعاناتهم وأكثر عمقاً في النظر إلى الحياة وإلى الناس، فلا تخدعك المظاهر ولا تعود تفرح بما أوتيت من خير ونعمة بل تيسر كل ذلك في العطاء، عطاؤك للناس من حبك وعطفك ورعايتك واهتمامك قبل مالك..

هل هناك من يريد أن يستلذ بالبيان ويسعد بالكلمة ورونقها وجمالها؟ فأين هو إذاً من عبقري البيان ومهندس الكلمة وأديب العربية الكبير مصطفى صادق الرافعي، فهو قد يكون رعداً مجلجلاً وزلزالاً مدمراً وكذلك يكون نسيماً هادئاً يرف على الروض الزاهر ونميراً عذباً يترقرق به الجدول الصافي، وذلك كما وصفه الدكتور محمد رجب البيومي في ترجمته للرافعي، وأجده وصفاً أقرب إلى الصورة الكاريكاتورية جاء على لسان إحدى الشخصيات في أروع كتب الرافعي على الإطلاق "وحي القلم": "فلو انكمشت الصحراء المجدبة فصغرت ثم صغرت حتى ترجع أذرعاً في أذرع لكانت هي داري في محلة دار البصرة من بغداد.."، وكتب وصفاً بليغاً مؤثراً: "فالمسجد في حقيقته موضع الفكرة الواحدة الطاهرة المصححة لكل ما يزيغ به الاجتماع هو فكر واحد لكل الرؤوس، ومن ثم فهو حل واحد لكل المشاكل. وكما يشق النهر فتقف الأرض عند شاطئيه لا تتقدم، يقام المسجد فتقف الأرض بمعانيها الترابية خلف جدرانه لا تدخله". ولا يمكن أن نأتي في هذه العجالة على أسلس أسلوب وأعذبه ذلك هو الشيخ علي الطنطاوي، وهل ننسى العقاد وعبقرياته؟ المازني، الزيات، وأين أدباؤنا السعوديون من كل هذا؟ حمزة شحاته، أحمد السباعي، محمد سعيد العامودي، عبدالقدوس الأنصاري، وحمد الجاسر.. وغيرهم.

نحن بحاجة إلى الكثير حتى ننهل من هؤلاء ونغرق في أدبهم، لأننا ما زلنا بحاجة إلى كثير من الأدب.