في أصيل يوم عرفة، الجمعة الفارطة؛ جلست أتأمل في شاشة التلفاز وهي تنقل صور الملايين الذين يبتهلون ويجأرون بالدعاء، وقد تفنن المخرج وهو ينتقل من لقطة إيمانية إلى أختها، تجعل من مثلي يتحسر على تفويته هذه الشعيرة العظيمة.

تداعت للذاكرة -وأنا في حال الصفاء الروحي ذاك- مواقف مرت علي في الحج، إبان عملي المتنوع في أعوام خلت، إذ لا أنسى أبدا موقفا طريفا وأنا مراسل لقناة "أقرأ" قبل أكثر من 15 عاما، إذ كنت مع المصور بكاميرته، أتحدث في تقرير عن الحلاقين الذين افترشوا رصيفا طويلا بـ"منى"، جوار جمرة العقبة الكبرى، واتفقت مع أحدهم أن يحدثنا عن مهنته، وهو يقوم بالحلاقة، ووقتما أنهيت التقديم التفت إلي الحلاق، وإذا به يهرب فجأة ومعه عشرات من زملائه، بطريقة أجفلتني وجعلتني مذهولا مما يحدث أمام عيني، وبعد أن أفقت من ذهولي، إذا القضية أنها كانت مداهمة مفاجئة من رجال أمانة العاصمة المقدسة على الحلاقين المخالفين.

وأسقط في يدي على تفويت ذلك التقرير، بيد أنني نظرت إلى أولئك الزبائن الذين قاموا متذمرين، وهم الذين تُركوا في منتصف الحلاقة، لأفاجأ وغيري بهيئاتهم المضحكة جدا، فنصف شعر الرأس محلوق والنصف الآخر طويل، والبعض ثلث الشعر أو ربعه، المهم أني وجدت نفسي أمام حجاج ساخطين ذوي هيئات مضحكة، فأدركتني حرفتي الإعلامية –بكل لؤمها- وقمت أصورهم وأنا أحكي ما حدث، وكان تقريرا ندعوه في مهنتنا: "خبطة إعلامية"، بيد أنني بعد تشاوري مع أستاذي الراحل د. عبدالقادر طاش، يرحمه الله، الذي ارتأى عدم بثه بسبب مراعاته لمشاعر أولئك الحجاج. لا أدري هل قضت الأمانة على تلك الظاهرة أم لا زال الحلاقون بتلك الطرائق البدائية لقص الشعور، والتي لا شك تحكي مظهرا غير حضاري أبدا، ولا يليق بوطن كالمملكة.

من تلك المواقف التي تجذرت في الذاكرة، أنني حججت وأنا طالب في جوالة جامعة الملك عبدالعزيز في 1407، وكنت في سنتي الثالثة بالجامعة، وكنا نقوم بإيصال الحجاج التائهين في منى وعرفات، وأقوم في الطلعة الواحدة بأخذ عشر مجموعات بحسب خيامهم، وإيصالهم إلى مخيماتهم التي تاهوا عنها، وكانت الحماسة تملأنا، فضلا عن استحضارنا الأجر العظيم من الله تعالى، ومحاولة ترجمة الروح المثالية لوطننا في تعاملها مع ضيوف بيت الله، فكنت أحدث الحجيج وهم في حالتهم النفسية الصعبة وأخفف عنهم، وأتباسط معهم، وفوجئت بسيدة مصرية في الخمسينيات من عمرها -بعد أن أوصلتها- تمسك بيدي فرحة بوصولها لمخيمها، وتحضنني أمام زوجها وجمع الحجاج، وتقول لي بكل الحب والحدب: "والله إن لي ابنة جميلة في المنصورة، وأنا أحببتك، وأنا مصممة على تزويجك إياها"، بالطبع أحمرّ وجهي خجلا، وشكرتها واعتذرت لها بأنني طالب في الجامعة لمّا يتأهل بعد، وهي تحلف وبقية الحجاج ينظرون لي، ينتظرون موافقتي لأرسم خاتمة لمشهد درامي جميل، وكدت أذوب في بدلة الجوالة من فرط الحرج. الآن بعد كل تلك السنوات، لا أملك إلا أن أزفر آهة طويلة وأقول: "أين أنت يا تلك الخالة الكريمة"؟

ما يقوم به الكشافة والجوالة في الحج، هو جهد نفخر به، وهم واجهة مضيئة للوطن في تعاملهم الراقي مع الحجاج الذين تاهوا عن خيامهم، وأتمنى دعمهم، وليتهم يقيمون شراكة استراتيجية مع جمعية "هدية الحاج والمعتمر" التي زرت مقرها، وأذهلتني بما لديها وما تقدمه للحجاج والمعتمرين، وأتصور أن هؤلاء الكشافة لو قاموا بتوزيع تلك الهدايا على الحجاج التائهين لكانت لمسة إنسانية رائعة.

تظل مشاهد رمي الجمرات من أصعب وأمتع الأمكنة، إذ تكون النفوس في أوج انفعالاتها، وتتكرر القصص الطريفة عما يتفوه به بعض الحجيج وهم يرمون جمراتهم، ويظنونه الشيطان، ولعل أشهرها لذلك الصعيدي الذي يرمي الحصوات، صارخا: "أنت اللي فرقت بيني وبين مراتي"، ووالله قد رأيت وسمعت ذلك عيانا، لرجل ممتلئ، وهو يصيح مع كل حصاة يقذفها من صميم قلبه وبكل قوته، وظني أنها حجر وليست حصاة، وكل قذفة يردد أمرا أخفق فيه بحياته، ففي الثانية يقول: "أنت من جعلتني أقاطع عمي"، وفي التالية: "خذ يا لعين، أنت من جعلتني أبيع البيت بخسارة"، وهكذا دواليك حتى انتهت الحجارة من يديه، وفجأة من انفعاله مع الموقف، يأخذ حذاءه "الزنوبة" ويقذف به تجاه النصب، ولم يكتف بذلك، بل بدأ يتحسس بيديه الأرض رغم كل الزحام، يريد حصوات جديدة ليرمي الشيطان بوهمه. أخذتني حماسة الشباب، ورأيت أن من واجبي الأمر بالمعروف، ونصح الرجل وإرشاده للسنة، فاقتربت منه وقلت: "يا عمّ، ما تفعله خطأ، فليس هذا ما تعتقده أنه الشيطان"، فنظر إليّ شزرا، والشرر يتطاير من عينيه، ولكأنه رأى الشيطان فيّ، وزعق: "نعم، يا روح أمك"، فعرفت أنه سيفرغ باقي غضبه علي فهربت من أمامه لا ألوي على شيء في ذلك الزحام الشديد، وأنا أهمهم: "أبواب الخير والأجر مفتوحة وليست مقصورة على الأمر بالمعروف عند الجمرات" ونجوت بجلدي.

فعلا نحتاج إلى تثقيف الحجيج بهذه الشعيرة، وإبطال وهم أن ما يرجمونه هو الشيطان بعينه، وثمة أمور عديدة ينبغي علينا اشتراطها على من يروم الحج، كأن يعرف قبلا كيفية الطواف وأداء الشعائر على السنة الصحيحة بما تتفق عليه المذاهب الأربعة.

ألحت علينا قبل 25 عاما والدتنا الغالية أن تحج الفريضة، وكنا ثلاثة إخوة اصطحبناها لأداء حجة عمرها، وأثناء وجودنا في المسعى، كانت مع شقيقي الأكبر، الذي تركها لشرب زمزم موصيا إياها بأن تبقى مكانها، وعاد إليها ولم يجدها، فأتيناه وسألناه عنها، وقال إنه أضاعها، فبدأنا رحلة بحث مضنية في تلك البقعة، وظللنا لساعتين نلوب بلا نتيجة، وجثم علينا همّ عظيم، لأن الوالدة الغالية من أولئك الأمهات اللاتي لا يخرجن من بيوتهن إلا للضرورة، ولا خبرة لديها في التعامل مع مثل هذه المواقف، وتفرقنا أيدي سبأ نبحث في كل مكان، ولكن هيهات مع ذلك الزحام، وتشابه الناس، والأسوأ في حالتنا أنها متنقبة، فليت شعري كيف نجدها إلا بمعجزة، وعشنا حالة نفسية صعبة، وبعد بحث شاق ومضن، انفلت في ذات المكان الذي بحثنا لمئات المرات فيه، وميزتها بعد أن خلعت نقابها وهي تبكي كطفلة -يحفظها الله ويمدها بالصحة والعافية- فهتفت بملء صوتي: أمي، وانفلت لها لأحضنها، وبي فرحة الدنيا كلها أني وجدتها، ولم أفق إلا بكفّ تصفعني، وقد وضعت والدتي كل ساعات المحنة والقلق والخوف في تلك الصفعة التي لا أنساها ما حييت، وأتذكر أن وميضا أبيض أعشى عيني لوهلة من قوة تلك الصفعة وهي الكبيرة في السنّ، ولم أملك إلا أن أحتضنها بكل ما أملك من قوة وأنا أضحك. وبعدما ما هدأت قمت بتقبيل يديها التي صفعت، وأنا أردد: "أخي من أضاعك، وأنا من وجدك، فتصفعينني"، فلا تملك إلا أن ترفع يديها بدعاء أرجو من الله أن يتقبله منها. العجيب أنها قالت إنها لم تفارق أبدا مكانها طيلة تلك الساعات.

في الحج مواقف وعظات، ويا لحظ من يسر الله حجته وتقبلها منه.